اكتشف باحثون من معهد سان رافاييل-تيليثون للعلاج الجيني (SR-Tiget) في ميلانو، إيطاليا، فترة حرجة قصيرة بعد الولادة يمكن فيها استهداف الخلايا الجذعية الدموية المتنقلة باستخدام العلاج الجيني مباشرة داخل الجسم. وقد نُشرت نتائج هذه الدراسة الريادية في مجلة Nature، مُعلنة عن بداية عصر جديد في علاج بعض الاضطرابات الوراثية دون الحاجة إلى زراعة الخلايا الجذعية أو العلاج الكيميائي التقليدي.
- الاستفادة من نافذة ما بعد الولادة
أوضح الباحثون أن الأسابيع الأولى بعد الولادة تشهد حركة كثيفة للخلايا الجذعية الدموية في مجرى الدم، حيث تهاجر من الكبد — وهو موطنها أثناء الحمل — إلى نخاع العظم، وهو مقرها الدائم في الجسم. خلال هذه المرحلة، تصبح الخلايا الجذعية أكثر عرضة للتعديل الجيني عبر الحقن الوريدي باستخدام نواقل فيروسية بطيئة (Lentiviral Vectors)، دون الحاجة لاستخلاصها أو تعديلها خارج الجسم.
- تقول الدكتورة ميكيلا ميلاني، قائدة الفريق البحثي:
"لقد وجدنا أن هذه الخلايا أثناء تنقلها بعد الولادة تكون قابلة للتعديل الجيني بسهولة، ما يسمح بعلاج مباشر دون خطوات معقدة أو تدخّلات عنيفة."
- علاج ثلاث أمراض وراثية بنجاح
اختبر الباحثون هذه الطريقة في نماذج فئران مصابة بثلاثة أمراض وراثية:
1. نقص المناعة المشترك الحاد المرتبط بإنزيم ADA (ADA-SCID): يؤدي إلى ضعف حاد في جهاز المناعة بسبب غياب الخلايا اللمفاوية.
2. تصلب العظام الوراثي (Osteopetrosis): مرض عظمي ناتج عن خلل في الخلايا المشتقة من الدم والمسؤولة عن إعادة تشكيل العظام.
3. فقر دم فانكوني (Fanconi Anemia): اضطراب نادر في نخاع العظم ناتج عن خلل في إصلاح الحمض النووي، ما يُعرض الخلايا الجذعية للتلف.
وقد أثبتت النتائج نجاح العلاج الجيني داخل الجسم في إطالة عمر الحيوانات وتحقيق تحسّن ملحوظ، لا سيما في فقر دم فانكوني، حيث أظهرت الخلايا المُصححة قدرة على تعويض الخلايا المريضة وإعادة بناء الجهاز الدموي بالكامل، تماما كما يحدث في علاجات بشرية ناجحة.
- توسيع نافذة العلاج باستخدام محفزات طبية
لتمديد فترة الاستفادة من هذه التقنية، استخدم الفريق البحثي أدوية مُرخّصة سريريًا مثل G-CSF وPlerixafor لتحفيز خروج الخلايا الجذعية من أنسجتها نحو مجرى الدم، مما سمح بزيادة فعالية العلاج الجيني حتى في الفئران الأكبر عمرًا. كما تم تحسين أداء النواقل الفيروسية لضمان ثباتها وفعاليتها.
- من الفئران إلى الرضع: هل يمكن تطبيق التقنية على البشر؟
النتائج المشجعة لم تقتصر على الحيوانات، فقد اكتشف الباحثون وجود خلايا جذعية دموية متنقلة في دم الأطفال حديثي الولادة وحتى في الأشهر الأولى من حياتهم، ما يعزز فرضية إمكانية تطبيق العلاج الجيني داخل الجسم على البشر في وقت مبكر من حياتهم.
يقول الدكتور أليسيو كانتوري: "تقدم هذه الدراسة دليلا أوليا على إمكانية تطبيق العلاج الجيني المباشر في جسم الإنسان لعلاج اضطرابات الدم الوراثية، خصوصا تلك التي لا تتطلب نسب تعديل عالية لتحقيق فائدة علاجية مثل نقص المناعة أو فقر دم فانكوني."
ويضيف البروفيسور لويجي نالديني، المشرف العام على المشروع: "في الفترات المبكرة من الحياة، لا تقتصر الميزة على وفرة الخلايا الجذعية فحسب، بل تكون أيضا أكثر استعدادا لقبول التعديل الجيني. نهدف إلى فهم السبب البيولوجي وراء هذا الاستعداد العالي ونأمل أن نتمكن من إعادة تفعيله في مراحل عمرية لاحقة."
- نحو تطبيق سريري واعد
معهد SR-Tiget، الذي يُعتبر رائدا عالميا في استخدام نواقل الفيروسات البطيئة في العلاج الجيني، يستعد الآن لمواصلة البحث من أجل نقل هذه التقنية إلى التطبيقات السريرية على المدى القريب. ويأمل الباحثون في أن يتيح هذا النهج الجديد علاجا آمنا وبسيطا للأطفال المصابين بأمراض وراثية نادرة، دون الحاجة للتدخلات الجراحية أو الكيميائية المكلفة والمعقدة.


