اسماعيل ديوب
عندما ننظر إلى الصراعات الكبرى حول العالم، غالباً ما نرى الأمور وكأنها مجرد مواجهة بين طرفين رئيسيين. وفي سياق الشرق الأوسط، يميل الكثيرون لتبسيط التوترات بين إيران وإسرائيل واعتبارها جوهر المشكلة، لكن الحقيقة أعمق بكثير، فالصراع هنا ليس مجرد نزاع إقليمي، بل هو انعكاس لصراع أكبر وأوسع بين القوى المؤثرة على الساحة الدولية اليوم.
يمكننا أن نفهم هذا الوضع بشكل أفضل إذا نظرنا إليه كصدام بين نظامين عالميين: أحدهما يمثّل الهيمنة الأمريكية الساعية للحفاظ على موقعها، والآخر يجسّد الرغبة في تجاوز هذه الهيمنة والتحرك نحو نظام عالمي جديد، فإن أي تحليل يقف عند حدود المنافسة الإقليمية بين إيران وإسرائيل فقط، سيغفل حتماً عن الأبعاد الجيوسياسية المعقدة التي تشكل المشهد الحالي.
الهيمنة الأمريكية وسعي القوى الأخرى:
لا تزال الولايات المتحدة تحتل موقع الصدارة كقوة عالمية مهيمنة، مستندة إلى قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية لتشكيل الاستراتيجية العالمية، حيث تعتمد واشنطن بشكل كبير على شبكة من التحالفات، بهدف كبح جماح أي قوى قد تنافسها. لطالما اعتبرت أمريكا أن هذه الهيمنة ضرورية لحماية مصالحها وضمان استقرار النظام العالمي كما نعرفه.
في المقابل، نجد قوى مختلفة تعارض هذه الهيمنة، وفي مقدمتها إيران، التي تسعى جاهدة لتعزيز نفوذها في المنطقة.
تستغل إيران الفرص السياسية والجيوسياسية المتاحة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، لتعزيز مكانتها، سيما بعد خسارتها لبعض الأوراق.
دور الهوية والأيديولوجيا في الصراع:
تلعب الهوية السياسية والأيديولوجيا دوراً محورياً في تأجيج الصراعات، نرى هذا بوضوح في حالة إيران التي تقدم نفسها كقوة ثورية إسلامية، وفي حالة إسرائيل، التي ترى في وجودها ضرورة أيديولوجية مرتبطة بأمنها القومي.
هذا التباين العميق في الهوية ليس مجرد خلاف بسيط، بل يعكس صراعاً أكبر بين تيارات مختلفة، بعضها يتبنى رؤية إسلامية تقدمية، وبعضها الآخر يركز على مفهوم الدولة القومية التقليدية.
هذه الهويات المحلية تشكل الطبقة الخارجية للصراع، حيث تُستخدم مفاهيم مثل "الأمن القومي" و"الدفاع عن النفس" كمسوغات لزيادة التوترات، ورغم أن هذه الأيديولوجيات تُستخدم لتبرير المواجهات، لا يمكننا أن نغفل الدور الأساسي الذي تلعبه القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، فسياساتها وتفاعلاتها غالباً ما تزيد من حدة التوترات بدلاً من العمل على تهدئتها.
*نحو نظام عالمي جديد؟*
نعيش اليوم لحظة تاريخية فارقة، تشير التطورات العالمية فيها إلى أننا ربما نكون على أعتاب مرحلة انتقالية مهمة نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب. صعود قوى اقتصادية وعسكرية جديدة كالصين وروسيا، تنامي قوة التكتلات الإقليمية، والتحديات المعقدة التي تفرضها العولمة، كل هذه العوامل تضع ضغوطاً هائلة على النظام الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة.
في ظل هذه التحولات الكبرى، لم يعد الصراع في الشرق الأوسط مجرد نزاع محلي أو إقليمي، بل أصبح ساحة تتجلى فيها هذه التغيرات العالمية.
التوترات بين إيران وإسرائيل، رغم أهميتها على المستوى المحلي والإقليمي، هي في جوهرها مرآة تعكس هذا الصراع الأكبر على شكل النظام العالمي في المستقبل، حيث تسعى القوى الإقليمية لتعزيز مواقعها ونفوذها مستغلة التراجع النسبي للهيمنة التقليدية، بينما تحاول القوة المهيمنة جاهدة الحفاظ على نفوذها عبر دعم حلفائها التقليديين وبناء تحالفات جديدة. لذلك، فإن فهم ديناميكيات الصراع في الشرق الأوسط يتطلب منا رؤيته كجزء لا يتجزأ من التحولات الجيوسياسية الأعمق التي يشهدها العالم بأسره.
إن إهمال هذا البعد العالمي عند تحليل الصراع بين إيران وإسرائيل سيقودنا إلى فهم قاصر ومبسط لمشهد معقد ومتشابك للغاية. فالحرب هنا ليست مجرد مواجهة بين دولتين في منطقة واحدة، بل هي فصل من فصول الصراع الأوسع على إعادة تشكيل النظام الدولي، حيث تتداخل المصالح الوطنية والإقليمية مع الطموحات والتحديات التي تواجه العالم كله.



