لم تكن تعلم الأرملة المفجوعة أن الرجل الذي يغادر البيت فجراً بثيابٍ بسيطة، ويعود مغبرًّا متعبًا، يشكو آلام ظهره كأيّ عاملٍ في هذا الشرق المنهك، كان في الحقيقة عملاقًا يُحرّك خلف ستار العتمة أعقد منظومات الردع الإيرانية، ويزرع في قلب العدو رُعبًا لا يُطاق.
"كان مجرّد عامل نظافة" — هكذا كانت تراه زوجته، وهكذا أراد أن يبدو أمامها وأمام أولاده وجيرانه والبوّاب والعالم كلّه. لم يكن يملك من مظاهر السلطة شيئًا، ولا يُجيد غير الصمت والتواضع. مفاتيح المبنى في جيبه، وسجادة صلاته على ظهره، وقلبٌ مغمورٌ بالحُب والخشوع والسرية.
عشرون عامًا وهو يمضي على ذات النسق: صامت، هادئ، بعيد عن السياسة وعن الحروب، يُطعم قطط الزقاق، يُصلّي الفجر ثم يهمس لأطفاله بدعواتٍ صغيرة تليق بالقلب الكبير الذي يحمله في صدره. لم تكن زوجته تعرف عن غياباته الطويلة سوى أنها "عمل إضافي"، ولم تكن تقرأ في حُزنه العميق إلا تعب الأيام.
لكن في ليلةٍ صيفيةٍ ملتهبة، دوّى الانفجار الكبير... صاروخ صهيوني شقّ جدار الهدوء وأسقط المبنى بمن فيه. ظنّت الأرملة أن زوجها كان ضحية خطأ في الإحداثيات، وصرخت بحرقة:
"زوجي؟! عامل نظافة... لا شأن له بالقادة ولا بالصواريخ!"
لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في الانفجار، بل في ما تلاه...
صورته غطّت الشوارع، ووسائل الإعلام أعلنت اسمه بلقبٍ مزلزل:
"الشهيد القائد... مهندس الظل، صانع الرعب، كاتم السر، عملاق الصواريخ الباليستية."
لقد كان اللواء جواد بوررجبي أحد أعمدة القوة الجو-فضائية في حرس الثورة الإسلامية، العقل المدبّر لصياغة الردع الصاروخي، وسيد الصمت الذي غيّر معادلات الشرق الأوسط دون أن يُطلّ على شاشات التلفاز، ودون أن تُعرف له صورة واحدة حيّة في حياته.
جاء القادة إلى بيت أرملته، تقدّمهم كبار الضباط والمهندسين، وقالوا لها بوقار:
"كان صامتًا لأنه كان أمينًا، وكان بسيطًا لأنه كان عظيمًا."
وفي زوايا الذاكرة بدأت الأرملة تسترجع التفاصيل الصغيرة التي مرّت كأسرار: تأخّره الغامض، حزنه النبيل، عينيه اللتين تلمعان كلّما شاهد نشرة أخبار فيها حديثٌ عن فلسطين أو المقاومة.
نعم، كان عامل نظافة… في ظاهر الحياة، لكنه كان ينظّف في الباطن جبهات الأمة من الوهن، ويكنس من عقل العدو أوهام الانتصار.
كان يمسح بلا ضجيج جدران الصبر، ويكنس بخطاه العادية ساحات الكبرياء، ليزرع صواريخ في السماء... وليترك خلفه إرثًا من المجد يشهد له التاريخ.
لم يمت القائد بوررجبي في غارة... بل صعد من صمته إلى أسطورة.
شهيدًا مجهولًا في حياته، عظيمًا مزلزلًا في شهادته.



