عدنان علامه - عضو الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين
منذ تفاهم نيسان 1996، شكّلت المقاومة اللبنانية طرفًا رئيسيًا في المفاوضات مع إسرائيل، بوساطة سورية وأميركية مباشرة. وقد فرضت حينها شروطًا واضحة تمنع استهداف المدنيين والبنى التحتية، وتكرّس حق الرد. واعتُبر هذا التفاهم إنجازًا نوعيًا، إذ كُتب بدم المقاومة ومقاومتها، لا بتوقيع الدولة، وضمن رقابة دولية ضمنت توازن الردع.
وفي عام 2000، انسحب جيش الإحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان تحت وطأة العمليات اليومية التي فرضت عليه الاستنزاف، لتتحقق أول هزيمة عسكرية معلنة لإسرائيل دون تفاوض أو إتفاق. كان ذلك ثمرة مقاومة فرضت معادلة الردع وجعلت الإحتلال غير قابل للإستمرار.
ثم جاءت حرب تموز 2006، ليُقرّ بعدها القرار الدولي 1701، والذي أنهى العدوان وأعاد تنظيم قواعد الاشتباك جنوبًا، مع احتفاظ كل طرف بحق الدفاع عن النفس. ومع بدء تطبيق القرار، دخل لبنان عصرًا ذهبيًا من الاستقرار الردعي؛ إذ لم يجرؤ العدو على تنفيذ أي عدوان واسع، بفضل جهوزية المقاومة وحضورها الميداني والسياسي، وفرضها قواعد اشتباك صارمة ردعت إسرائيل على مدى أكثر من 28 عامًا.
غير أن الأمور تغيّرت في عام 2024، عندما قررت حكومة تصريف الأعمال برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي إقصاء المقاومة عن أي دور تفاوضي، وتولّت بنفسها التفاوض على وقف إطلاق النار وفق القرار 1701، دون مشاركة المقاومة ودون مشاركة أي خبیر عسكري، أو خبير في القانون الدولي.
وقد تم الإعلان عن وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر 2024، لكنه جاء مخالفًا للقواعد القانونية:
1- الإعلان لم يتضمن أي توقيع رسمي على الأوراق.
2- أضيفت إليه فقرة انسحاب إسرائيل خلال 60 يومًا، وهو بند غير موجود في نص القرار الأممي 1701.
3- إسرائيل لم تنسحب فورًا، بل مددت انسحابها تدريجيًا حتى 18 شباط 2025، ثم إنسحب الوسيط الأمريكي، بعد أن ثبَّت جیش الإحتلال في خمسة مواقع احتلال جديدة، داخل الأراضي اللبنانية.
وفي ظل هذه "الشرعية الشكلية"، استباحت إسرائيل كامل لبنان، بزعم وجود "تفاهمات مع الدولة". والكارثة أن الدولة اللبنانية لم تقدّم شكوى واحدة إلى مجلس الأمن رغم سقوط أكثر َمن 160 شهيدًا و 500 جريح نتيجة القصف الإسرائيلي المتكرر بشكل شبه يومي. وكأن اللبنانيين خارج حسابات الإنسانية.
والأخطر أن هذه المرحلة ترافقت مع ضغوط أميركية غير مسبوقة، يقودها الموفد الأميركي توم برك، الذي يضغط على الرؤساء الثلاثة لنزع سلاح حزب الله. واللافت أن رئيس الحكومة لم يطالب بوقف الاعتداءات أو بوضع شروط قانونية لردع إسرائيل، رغم أن هذه الأخيرة تسلّمت منذ 7 أكتوبر وحتى 25 أيار 2025، أسلحة أميركية ضخمةجدًا نُقلت عبر جسر جوي من 800 طائرة وجير بحري من 140 سفينة، وهي كمية تكفي لتدمير عدة دول؛ واُستخدم بعضها لاحقًا في العدوان على إيران.
إن الحقيقة المؤلمة هي أن المقاومة، حين تولّت التفاوض، فرضت شروطًا تحمي لبنان. لكن عندما تسلّمت الدولة الملف، خسر لبنان قوة الردع والسيادة وحتى حق الدفاع عن النفس.
وبين تفاهم 1996 واتفاق 2024، ضاع لبنان حين تم تغييب من دافع عنه.
وأمريكا تضغط على لبنان عبر وسيطه برّاك بضرورة سحب السلاح في أقرب فرصة ممكنة ورئيس الحكومة يحاول الضغط على الرئيس بري.
لقد عطّلت المقاومة هذا القرار بحكمتها وحنكتها 18 عاما بالرغم من الضغوط الهائلة على قوات اليونيفيل؛ وعاش اللبنانیون في العصر الذهبي للبنان؛ ولكن تخلى لبنان الرسمي عن أسباب قوته؛ وفرضت أمريكا بالإكراه أو القبول ببقاء قوات الإحتلال 60 يومًا أضافيًا؛ فتخلت الدولة عن سيادتها بالإكراه أو بالتنسيق مع الأَمريكي وأعطيت قوات الإحتلال حرية العدوان في كل عدوان فدمرت واحتلت ما لم تستطيع تنفيذه خلال ال66 يومًا.
والأدهى من ذلك فقد تخلى لبنان عن حقه الرسمي بالدفاع عن لبنان بموجب القرار 1701، وبموجب البند 51 من ميثاق الأمم المتحدة؛ ووصل الأمر إلى وزير خارجية لبنان الذي رفض إصدار أي بيان إدانة مبررًا ذلك، بأن الإعتداءات تحصل بشكل يومي، فهل تتوقعون أن أصدر بيان يشكل يومي؟
فمن حيث البروتوكول المعمول به في وزارة الخارجية هو تسجيل شكوى لدى الأمم المتحدة لكل إعتداء.
وللأسف لم يقوم المجلس النيابي بعمله، في مراقبة الحكومة، وسؤالها عن عدم القيام بما تعهدت به، أمام النواب في بيانها الوزاري، بالدفاع عن سيادة لبنان وسلامة أراضيه.
فأمريكا زودت إسرائيل بالسلاح من رأسها حتى أخَمص قدَميها بما يفوق حاجتها بآلاف المرات؛ ولم يتحرك مجلس الأمن او أمريكا لردع إسرائيل؛ لأن أدرعي كان يردد في بياناته هذه الفقرة :"الجيش الإسرائيلي يواصل العمل على إزالة أي تهديدات لإسرائيل، وفقًا للتفاهمات مع لبنان"، مؤكدًا على التزام الجيش بالحفاظ على هذه التفاهمات ومنع إعادة تموضع حزب الله وتسليحه"؛ وللأسف لم ينفِ لبنان هذه الإدعاءات.
ومن جهة إخرى في شرقي لبنان والجنوب الشرقي منه وأقصى شماله يتموضع عدو جديد مَقابل الحدود إعتاد على الذبح والعدوان.
وأمّا في الداخل، فقد قالت القوات اللبنانية بصراحة بأن لديها 15.000 مقاتل مستعدون لسحب السلاح. وإلى جانب هذا، فالإتحاد الأوروبي لا يزال يحتفظ بأكثر من مليون سوري بالإتفاق مع رئيس الحكومة بحجة " إجراء إنتخابات في سوريا وتستقر الأوضاع هناك أكثر ".
ولا بد أن نإخذ في الحسبان العدوان الصهيوامريكي على إيران، غير آبهين بالقوانين الدولية. بل أرادوا تطبيق قانون المافيا والإذلال وفرض الإستسلام للإرادة الصهيو - أَمريكية.
فعلى رئيس الحكومة أن يراجع قائد الجيش لیعرف مدى تسليح العدو ؛ وانتشار الجماعات المسلحة على طول الحدود اللبنانية، ويضطلع بشكل جيد على الخلايا الإرهابية وإعتراف اتهم، وألًا يكون ملكيًا أكثر من الملك.
فالقرار 1701 لن يكون أول قرار لا ينفذ ولن يكون الأخير؛ فهناك عشرات القوانين التي ترفض إسرائيل تنفيذها.
والنصيحة الخيرة للجميع، هي عدم تحدي الشيعة إإخضاعهم لأخذ التنازلات منهم.
فهذا هو شهر التعبئة الروحية لرفض الظلم والإذلال. فقد قال الإمام الحسين في َكربلاء: "ألا إنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة و #هيهات_منا_الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون؛ ونفوس أبيّة وأنوف حميّة من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
وإنً غدًا لناظره قريب
29 حزیران/يونيو 2025


