عدنان علامه - عضو الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين
لم يكن تأجيل نشر هذا المقال في مطلع الشهر الحالي عبثيًا، فلعل ما تلا من أحداث قد شكّل الدليل الحي على أن "الطبع يغلب التطبع"، وأن تغليف التطرف بالبروتوكول لا يمحو سواد الفكرة ولا نزعة الدم.
ففي الأيام الأخيرة، اهتز الجنوب السوري بمجازر مروّعة طالت الدروز في السويداء بعد أن أُعطوا الأمان رسميًا؛ وقد سبقها مجازر أخرى في الساحل السوري، استهدفت العلويين والمسيحيين، وسط صمت دولي مطبق وتواطؤ مريب من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، التي ارتضت لنفسها دور المتفرّج بينما كانت تعبّد الطريق للجولاني نحو "الشرعية".
بل إن واشنطن – كما تؤكد تقارير غربية – ساعدت في إعادة إنتاج صورته سياسيًا، من خلال تدريبات على البروتوكول وطريقة لا المشي واللباس واللباس و حتی ربطات العنق، وتلميع إعلامي محسوب، ظنًا منها أن بإمكانها تحويل "قاطع الرؤوس" إلى رجل دولة.
ولكن مجازر الجنوب أسقطت هذه الأوهام دفعة واحدة، وفضحت هشاشة المعايير الغربية في تصنيف الأصدقاء والأعداء. فقد جاء التدخل الإسرائيلي شكليًا، واقتصر على قصف دبابتين للجولاني، في خطوة وُصفت بأنها "لإخلاء المسؤولية الإعلامية"، وليست ذات أثر عسكري فعلي. وبلغ التواطؤ مداه مع تسليم جبل الشيخ لإسرائيل، وتدمير ما تبقّى من مخازن أسلحة الجيش السوري، مما يلقي بظلال الشك على دور أمريكا والدول السبع ومجلس الأمن، ويضع علامات استفهام کبيرة حول أهداف هذه الحرب التي استنزفت سوريا ودمرت بُناها تحت ذرائع كاذبة.
ولعل أبرز الشهادات على فشل مشروع "تلميع الجولاني" جاءت من داخل إسرائيل نفسها، إذ كتب الصحافي الصهيوني نوعم أمير: "ما يفعله عناصر الجولاني بالدروز سيجرّنا إلى حرب برية هناك... هذا الجهادي القذر يأكل الرؤوس المقطوعة على الفطور. كيف لنا حتى أن نفكر في تطبيع العلاقات معه؟"
أما الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، فقد أعلن بوضوح: "المجزرة التي يرتكبها نظام الجولاني ضد الدروز تثبت أنهم سيظلون متطرفين ووحشيين. ولا يجوز للغرب أن ينخدع بالزي الرسمي وربطة العنق".
وتذكرنا هذه التصريحات مع حادثة لافتة؛ "حرق مركز الأحوال الشخصية المركزي" والذي تزامن مع وصول أبو محمد الجولاني إلى سوريا، بعد إثارة الجدل حول نسبه العائلي، ونفي عائلة الشرع صلته بها. فهذا الإحراق لا يبدو مجرد عمل تخريبي، بل محاولة لطمس الهوية وإعادة صياغتها بما يناسب الغطاء الدولي الممنوح له.
ومن ناحية فكرية، يُظهر هذا المسار التقارُب الخطير بين العقيدة الوهابية التي يتبناها الجولاني، والعقيدة التوراتية التي يستند إليها نتنياهو. فكما قال محمد بن عبد الوهاب: "من دخل في دعوتنا فله ما لنا وعليه ما علينا، ومن لم يدخل في دعوتنا فهو كافر مباح الدم".
وإن نتنياهو، بدوره، استباح دماء الفلسطينيين مستعينًا برمزية "العماليق" التوراتية، وأسقطها على أبناء غزة والضفة بوصفهم أعداءً لليهود يجب إفناؤهم.
هكذا تتقاطع ذهنية الإبادة بين "الراية السوداء" و"الكيباه"، وبين الطعن من الخلف والقتل بإسم "الحق الإلهي"، فيما تغضّ القوى الدولية الطرف، بل وتشارك في تصنيع هذا الجزّار الجديد.
خاتمة: الجولاني في التقييم الدولي – قفّاز قذر في يد المصالح الدولية
إن صعود الجولاني لا يعني نضج تجربته السياسية، بل يكشف عجز النظام الدولي عن إنتاج بدائل غير دموية. وتم تلميعه عندما اقتضت الحاجة إلى شوكة سنية تقف في وجه إيران، لكنه لا يزال – في عين العقلاء – أداة رثة في يد قوى تستخدمه ثم تتخلى عنه كما فعلت مع عشرات "الوكلاء" في التاريخ الحديث.
وإذا كان البعض يراهن على التطبيع معه، فإن الحقيقة أن المحاربين السنّة لن يثوروا عليه، لا لأنهم يدعمونه، بل لأنهم يلتزمون قاعدة دينية تقول: "لا يجوز الخروج على الحاكم بأمره"، مما يمنح الطغاة حصانة دموية مغلفة بالنصوص.
وما حدث في الساحل والجنوب السوري ليس مجرد تجاوزات أمنية، بل يُصنّف حسب نظام روما الأساسي كـ جرائم ضد الإنسانية، بينما يشكل صمت الدول السبع الكبرى والمجتمع الدولي إخلالًا بمبدأ "مسؤولية الحماية" المعتمد أمميًا.
وأما تسليم المواقع الاستراتيجية وتدمير السلاح، فيُعد انتهاكًا واضحًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تكفل حق الدفاع المشروع عن النفس.
فإن الصمت هنا لا يبرئ أحدًا… بل يُدين الجميع.
وإنَّ غدًا لناظره قريب
16 تموز/يوليو 2025