لا يوجد حزب او تنظيم سياسي
خالِ من المدنس الى جانب المقدّس.فادت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"الحركة الوطنية الفلسطينية لعدة عقود، وكانت القاطرة لكل الفصائل الفلسطينية ذات المناهج والتوجهات المتعددة، التي لم تستطع خلال المسيرة الطويلة ان تؤثر في القرار الفلسطيني الذي كانت تصنعه " فتح"داخل منظمة التحرير الفلسطينية.
قامت حركة " فتح" بمنعطفات تاريخية من المقدّس الى المدنّس انعكست نتائجها وتداعياتها على مسيرة العمل الوطني الفلسطيني وعلى مواقف العمل القومي الداعم لقضيتنا.
المنعطف الاول:- الساحة الاردنية .شكل الاردن بعد عدوان حزيران ١٩٦٧ واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة ساحة العمل النضالي لحركة " فتح" والفصائل الفلسطينية الاخرى.وفي العاشر من حزيران/ يونيو ١٩٧٠ وقّع ياسر عرفات والملك حسين اتفاقية لوقف اطلاق النار واعتراف الاردن باللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اضفت الشرعية على الوجود الفدائي الفلسطيني في الاردن.
في ١٥ اب/ اغسطس ١٩٧٠ قال عرفات:(( قررنا ان نجعل من الاردن مقبرة لكل المتامرين وستكون عمّان هانوي الثورة)).وفي ٣١ اب/ اغسطس من العام نفسه منحت اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية عرفات صلاحية كاملة وسلطات واسعة النطاق للاشراف على جميع عناصر المنظمات الفدائية وادارة دفة المقاومة واتخاذ جميع الاجراءات الضرورية لحماية العمل الفدائي في الاردن.قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في السادس من ايلول/ سبتمبر ١٩٧٠ باختطاف مجموعة من الطائرات المدنية.تازمت الاوضاع بين الحكومة الاردنية ومنظمة التحرير الفلسطينية، مما اضطرها الى استخدام القوة العسكرية لانهاء الوجود الفلسطيني الذي راحت بعض فصائله ترفع شعارات طفولية مثل اسقاط النظام في الاردن، والسلطة كل السلطة للمقاومة.قالت العرب: (( لا يجتمع سيفان في غمد واحد)) مما جعل الحكومة الاردنية امام خيار لا ثاني له.(( سيف الدولة في غمده))وجرت معارك دامية ادت الى هزيمة المقاومة والخروج من الاردن.
على وقع الهزيمة في الاردن عقدت حركة " فتح" مؤتمرها العام الثالث .وفي النقاشات حول اسباب الهزيمة تم توجيه اتهام لجهاز الرصد الثوري الذي كان يقوده صلاح خلف( ابو اياد)بالتقصير.ومن بين المواجهات في هذا الشأن ان صلاح خلف برر نداءه للمقاتلين من اذاعة عمّان في ايلول / سبتمبر ١٩٧٠ بوقف القتال بان عمّان كانت مطوقة بفرقتين ميكانيكية ومشاة، غير ان كمال عدوان قاطعه قائلاً:(( ان صوتك من اذاعة عمان كان بمثابة الفرقة الثالثة)).وعلى اثر تلك الهزيمة تم تحييد الفلسطينيين وتم انخراطهم في الامور الحياتية المدنيةوالتي تحولت مع طول المدة الى عملية استيعاب متبادل كانت محصلته(( شعب واحد لا شعبين)).
المنعطف الثاني:- لبنان. كان لبنان محطة اللجوء الفلسطينيي الشمال الفلسطيني بعد نكبة ١٩٤٨ وانشات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين(اونروا)خمسة عشر مخيما في انحاء متفرقة من لبنان.بعد هزيمة الاردن لجات "فتح" والفصائل الفلسطينية الاخرى الى لبنان في فترة تاريخية صعبة حيث تشكلت المارونية السياسية( احزاب الكتائب والوطنيين الاحرار والكتلة الوطنية)على اثر هزيمة حزيران ١٩٦٧.وبرزت معادلة ميزان القوى داخل لبنان تتشكّل على اساس المعادلة العربية- الدولية الجديدة.وهي المعادلة التي سمحت بدخول منظمة التحرير الفلسطينية الى لبنان وعقد اتفاق القاهرة .ساهمت حرب تشرين الاول/ اكتوبر ١٩٧٣ في تعزيز موقع مصر و"فتح" وسورية في معادلة ميزان القوى .بعد اتفاق القاهرة صار العمل الفدائي مشروعا في جنوب لبنان، وتطور حي (( الفاكهاني))في العاصمة اللبنانية، بيروت الى العاصمة المخفية للفدائيين.ثم تحول الى (( دولة الفاكهاني)) .وعلى غرار ما حصل في الاردن ادى اتفاق القاهرة الى انشاء ما يشبه (( دولة داخل الدولة اللبنانية )) ولتتحول بيروت الى عاصمة المقاومة الفلسطينية.كان ياسر عرفات يقول بعد استقراره في لبنان (( ان لبنان ممرُّ مؤقت الى فلسطين ثم اطلق على (( الدولة داخل الدولة)) اسم (( دولة الفاكهاني)) التي تمددت لتشمل كامل منطقة بيروت الغربية والضاحية الجنوبية.وقد امتد نفوذ "فتح" والمنظمات الفلسطينية الى مطار بيروت تستقبل فيه الوافدين اليها من جميع انحاء العالم للاعراب عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. وعمد عرفات الى تشكيل حرس الشرف الذي يصطف لاداء التحية عند استقبال عرفات للشخصيات الاجنبية في مقر قيادته في بيروت.كان القصد من هذه المظاهر تثبيت منظمة التحرير الفلسطينية طرفا شبيها بالدولة او دولة وليدة الى حين يصبح بالامكان مبادلتها بمقعد على طاولة المفاوضات، وفي هذه الحالة - كما كان يعتقد عرفات- تتحول الدولة في المنفى الى دولة ذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة.المصدر يزيد يوسف الصايغ،الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية- بيروت ط١، ٢٠٠٢، ص٦٤١.
تغير الهدف من جعل لبنان ممرا مؤقتا الى فلسطين الى السيطرة على ما امكن من لبنان واتخاذ ذلك ورقة للوجود على خارطة الشرق الاوسط كما ذُكِرَجهارا، فقد راجت مقولة معبرةوذات مغزى، بعد الخروج من لبنان، وهي :(( ان لبنان كان رهينة بايدينا نفاوض عليه، والان فقدنا هذه الورقة، المصدر يزيد يوسف الصايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية بيروت.
فجرت المارونية السياسية الحرب الاهلية في لبنان عام ١٩٧٥ حيث اعتقدت ان الظرف يتيح لها فرصة تاريخية لكي تعيد صياغة النظام السياسي اللبناني بصورة تضمن لها تحقيق اكبر قدر من السيطرة على الدولة بعد تعديل التوازن الهش والضعيف ليصبح توازن قوة يعمل لمصلحتها.ولهذا سعت المارونية السياسية قبل كل شيء الى التخلص من الوجود الفلسطيني في لبنان.
في السادس من حزيران/ يونيو اجتاحت القوات الاسرائيلية لبنان ووصلت الى العاصمة اللبنانية واحتلت القسم الشرقي منها وحاصرت بيروت الغربية(( دولة الفاكهاني)) ودخلت منظمة التحرير الفلسطينية في مفاوضات مع المبعوث الامريكي فيليب حبيب تعهد فيها بالخروج من بيروت الى المنافي في تونس واليمن والسودان. المحصلة النهائية كانت انهاء الوجود الفلسطيني في لبنان وحدث الانعطاف الثاني من المقدس الى المدنس الذي ما كان ليحصل لو قررت منظمة التحرير الصمود واتخذت من الشرق اللبناني مقرا لقواتها العسكرية. وصارت العاصمة التونسية تونس المقر الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة " فتح".لم تسلم من ملاحقة الكيان الصهيوني عندما شنت الطائرات الصهيونية غارة على مقر اجتماع المجلس الثوري لحركة "فتح" وقتل جميع من كان فيه.كما قامت باغتيال خليل الوزير( ابو جهاد ) في عملية كوماندوز عام ١٩٨٨ وفي ١٥ كانون الثاني/ يناير١٩٩١ تم اغتيال صلاح خلف ( ابو اياد) وهايل عبد الحميد( ابو الهول).
المنعطف الثالث:- اوسلو.قاد احمد قريع(ابو علاء) مع وفد حكومي صهيوني في صيف ١٩٩٣ في اوسلو وبطاقم في تونس بقيادة محمود عباس( ابو مازن) وباشراف ياسر عرفات ( ابو عمار) انتهى بالتوقيع بالاحرف الاولى على ما سمِّيَ(( اعلان المبادئ الذي وقعه ياسر عرفات رسميا مع رئيس حكومة الكيان اسحق رابين في البيت الابيض في ١٣ ايلول/ سبتمبر ١٩٩٣ الذي اسفر عن اقامة (( الحكم الذاتي المحدود)) في الضفة الغربية وقطاع غزة .لم تسال القيادة الفلسطينية الشعب الفلسطيني ولم تَسْتَفْتِهِ( عندما اتفقت تحت جنح الظلام) وفي سرّية مطلقة في اوسلو ١٩٩٣ بالتنازل عن ٨٠ في المئة من فلسطين واقامة حكم ذاتي محدود على بعض الجيوب في الضفة الغربية وقطاع غزة.( في هذا الوقت تقلصت الجيوب كثيرا)وتحويل الفلسطينيين في فلسطين التاريخية الى(( جماعة سكانية تعيش في ذيل المجتمع الاسرائيلي )) واقامت اجهزة امنية وشرطة مهمتها وقف العمل الفدائي وحماية امن اسرائيل.شكلت اتفاقية اوسلو اخطر المنعطفات من المقدس الى المدنس في مسار حركة "فتح"التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية طوال عقود مستخدمة شعار الكفاح المسلح الذي الزمت اتفاقية اوسلو حركة "فتح"بالتخلي عنه .اذ (( بدون الكفاح المسلح)) الذي كانت تؤكد عليه في ادبياتها الاولى اسلوبا وحيدا لتحرير كامل التراب الفلسطيني، لم يعد لحركة "فتح" ايديولوجيا واضحة،ولا خطاب محدد، ولا خبرة او شخصية مميزة، وفي غياب دولة حقيقية ومستقلة، لم تتمكن "فتح" من تحويل نفسها الى حزب حاكم حقيقي، كما فعل على سبيل المثال المؤتمر الوطني الافريقي، في جنوب افريقيا.اذ بقيت حركة " فتح" غير كاملة ومعلقة : حركة تحرر لا تفعل الكثير من التحرر، حبيسة عملية تفاوض عقيمة، تفتقد وسائل الحكم بمزيج من الصلف والتعنت الصهيوني والقصور الذاتي.لقد انحرفت" فتح"عن التاريخ الذي صنعته لنفسها في ساحات العمل خارج فلسطين، في الشتات، لقد تخلت دون مبرر عن الدافع التحرري الاصلي لتغرق في حروب ضيقة.وقد تفاقم هذا بدوره بسبب فشل قادتها في اجتذاب دماء جديدة.على عكس تجربة الخارج التي شكلت سندا فلسطينيا موحدا.
وصار قادتها ومريديها يجترون الماضي، قانعين بالعيش على مكتسبات الماضي التليد، وعاجزين عن تقديم اي شيء جديد سوى التصفيق للسلطة واجهزتها الامنية واعتبار اوسلو مشروعا وطنيا .في الوقت الذي يسميه قادة الكيان والمفكرون والمؤرخون الاسرائيليون تمثيلية هزلية Oslo Charade .
بعد توقيع اتفاقية اوسلو.تعرض اسحق رابين لانتقادات شخصية من قبل المحافظين اليمينيين وزعماء الليكود الذين اعتبروا عملية السلام محاولة للتخلي عن الاراضي المحتلة والاستسلام لاعداء اسرائيل.
قام ايجال عامير باغتيال اسحق رابين.وهو طالب قانون اسرائيلي وقومي متطرف عارض بشدة مبادرة السلام التي طرحها رئيس الوزراء اسحق رابين.وباغتياله سقط اتفاق اوسلو وسقط حزب العمل الى غير رجعة.واستلم اليمين الصهيوني الموغل في العنصرية والتطرف بقيادة الليكودالذي يتزعمه نتنياهو الذي تنكر لكل الاتفاقيات والعهود واستراتيجيته المعلنة تهويد كل فلسطين من البحر الى النهرعبر التطهير العرقي والابادة الجماعية.
لم يبرز فلسطيني متطرف لاغتيال من وقع اتفاق اوسلو، لكن برز تيار وطني محافظ يرفض الامر الواقع ممثلا بحماس الفلسطينية والجهاد الاسلامي وما بقي من شظايا الفصائل الفلسطينية الرافضة لاوسلو.قامت حماس الفلسطينية والجهاد الاسلامي بعملية طوفان الاقصى لنقل العمل الفلسطيني من دائرة المدنس الى ساحات العمل المقدس في اكبر ملحمة نضاليةيسجلها التاريخ المعاصر.ملحمة قضت على اسطورة جيش الكيان الذي لا يقهر والسردية الصهيونية المزيفة التي حلت محلها السردية الفلسطينية الحقيقية وتداعت لها منظمات المجتمع المدني وطلبة الجامعات والمفكرين والنخب السياسية والدينية وخاصة النخب اليهودية ذات الضمير الحي وحملة المقاطعة
BDS ولاول مرة في التاريخ دعت النخب اليهودية مؤرخون وسياسيون ورجال دين الى مؤتمر عالمي مناهض للصهيونية ونظام التمييز العنصري الابارتايد في فلسطين.
لقد ساء طوفان الاقصى الانهزاميين والمستسلمين وباتوا في حالةمن الضيق الى درجة الاختناق ولسان حالهم يقول:
لا تفوقني على حالي ما بدي يفوق.
لا تفوفقني على حال ما بدي يفوق
يا ابن الكلب لا تفوقني على حالي. ما بدي يفوق.
مهندس/ زياد ابو الرَّجا
الشكر موصول لمؤسسة الدراسات الفلسطينية وللاستاذ محمد دلبح