إنصافاً للإمام موسى الصدر
مقالات
إنصافاً للإمام موسى الصدر
محمد علي بردى
25 تموز 2025 , 17:44 م

لا يخفى على أحد ما تهدف إليه محاولات اللّوبي الصّهيونيّ في لبنان لتحويل الإمام السيّد موسى الصّدر إلى شخصيّة ثوريّة منفصلة عن الحالة الإسلاميّة العامّة، فمن الطّبيعيّ أن يبثّ هؤلاء شبهات فكريّة وثقافيّة من شأنها أن تؤثّر على الواقع السّياسيّ العامّ، فضلاً عن المجتمع الشّيعيّ. لكن إنصافاً للإمام الصّدر ومنعاً من أن يتأثّر أحد من بيئة المقاومة بتحريفات المغرضين والمتناغمين مع هذه المحاولات داخل البيت الشّيعيّ، لا بُدّ من التَّصدِّي لها، خاصّةً أنّ الكثيرين ربما لم يطّلعوا على فكر الإمام الصّدر، وقد لا يلتفتوا إلى أنّ مواقف هذا القائد التّاريخيّ كانت مستندة إلى أُسُس ومنطلقات شرعيّة حتى في سائر أبعادها بحيث لا يمكن أن تكون مخالفة للثّوابت الإسلاميّة وإن قاربها من جهات أُخرى مثل القيم الأخلاقيّة وحقوق الإنسان وما شابه ذلك.

فلا مجال لما نراه من البعض حيث يُتعب نفسه في استبدال ملامح مدرسة الإمام الصّدر بما لا ينسجم مع كلماته إطلاقاً، بل إنّ هذا مرفوض جملةً وتفصيلاً، فالإمام الصّدر كان واضحاً في شعاراته وفي توصيفه للأزمات، وفي تشخيصه للحلول، وقد عبّر عنها بشكل صريح كما في قوله: "إنّ علاج المحنة يكمن في إعادة دور لبنان القوميّ إليه في مواجهة إسرائيل". ذلك أنّه كان يرى "أنّ قضيّة فلسطين هي قضيّة لبنان الأُولى". وكان يؤكّد بأنّ "القضيّة اللّبنانيّة والقضيّة الفلسطينيّة وجهان لحقيقة واحدة". كما بيّن الإمام الصّدر المسلك والمنهج الذي لا بُدّ منه في التّعامل مع المشروع التَّوسُّعيِّ للكيان الصّهيونيّ، حيث قال: "إنّ إسرائيل عازمة على السّيطرة على هذه المنطقة، وإنّها كما جرّبناها لا ترتدع إلّا تحت الضّغط العسكريّ والسّياسيّ". وهذه الكلمات لا تحتمل التّأويل، لا سيّما أنّها مدعّمة بنضال تاريخيّ مستمرّ لم يتوقّف حتى اللّحظة.

نعم، كان الإمام الصّدر وطنيًّا، وكان ينطلق في مثل هذه المواقف من وعي إيمانيّ يعطي حبّ الأوطان موقعيّته وتأثيره في حياة الإنسان، لكنّه كان يرى أنّ الحسّ الوطنيّ هو الذي يحتّم تحمّل مثل هذه المسؤوليّات الكبيرة، فليس الحسّ الوطنيّ مستقلًّا عن المنطلقات الدّينيّة والإنسانيّة. ولذا فإنّ مجرّد احتمال تبنّي الإمام الصّدر لمفهوم عن الوطن يلغي متبنّياته الدّينيّة والإنسانيّة خطأ منهجيّ فادح، إن لم نقل بأنّه من الكذب والافتراء، كيف ولقد كان ينتقد وبمنتهى الصّراحة "الإسلام الجغرافيّ" القائم على النّظرة المحلِّيَّة المستمَدّة من غير الفهم الدّينيّ؟!

طرح الإمام الصّدر "الإسلام الجغرافيّ" كنمط إسلاميّ محدود مقابل الإسلام الحقّ، وعرّف الأخير بأنّه "دين الله الواحد الذي بشّر به الأنبياء (ع) جميعهم"، ثُمّ بيّن ملامح خطّ الأنبياء (ع) حيث وصف حركة الأنبياء (ع) بـ "الجبهة" التي كانت تدعو إلى "تطبيق إرادة الله مِن أجل كمال البشر وإسعادهم في مختلف جوانب وجودهم، ولكلّ أفراد البشر من دون تمييز، كما أنّها تدعو بصورة خاصّة إلى حماية المستضعفين الذين ظُلموا، واغتُصبت حقوقهم، فاستُعمروا". بل كان يقول، ليقطع الطّريق على من يأتي بعد ذلك زاعماً عدم امتداد هذه الجبهة إلى زماننا هذا، أنّ "المعارك التي تدور بين أُمّتنا وبين إسرائيل امتداد للمعارك الأزليّة التي جرت وتجري؛ لذا فإنّ السّعي والمشاركة فيها، والجهاد في صفوفها، والاستشهاد لأجلها، إحياء لجبهة الحقّ التي تأسّست منذ أوّل الخلائق واستمرّت حتى الآن، وستبقى مستمرّة إلى النّهاية"!

لكن يبدو أنّ البعض، نتيجة الخلط بين المفاهيم الدّينيّة والمصطلحات السّائدة في الخطاب السّياسيّ المعاصر، اعتبر أنّ عدم تعلّق مفهوم المقاومة بـ "محور" في فكر الإمام الصّدر يعني تجريده – أي المفهوم – من أبعاده الأُمميّة، إلّا أنّ هذا اشتباه فاحش. لا شكّ ولا ريب أنّ الإمام الصّدر كان يرى البُعد الأُمميّ للمقاومة كما يظهر من كلماته، فإنّه – بالإضافة إلى حديثه عن الدّفاع عن النّفس – كان يسلّط الضّوء على وجوب إنفاق النّفس في سبيل الله لا سيّما في بُعده الأوسع كما في قوله: "عندما يرى الإنسان كثيراً من أبناء هذه الأُمّة واقفين في صفوف القتال، يُنفقون أنفسهم وأموالهم وحياتهم وشبابهم للموت في سبيل الدّفاع عن الأُمّة، لا بُدّ من أن يشعر بأنّ عليه أن يُنفق". ولئلّا يشتبه أحد في عظمة مثل هذا الإنفاق وما فيه من نجاة للأُمّة، يكمل الإمام الصّدر قائلاً: "إذا تخلّفنا – لا سمح الله – فهذا معناه إبقاء الأُمّة في حالة الذُّلِّ وفي حالة سيطرة الظّالمين وفي حالة عدم تملّكها لتقرير مصيرها".

ولهذا فإنّه لا يسوغ لأحد أن يتوهّم أنّ الإمام الصّدر كان من الممكن أن يضع ما عُلم من شخصيّته المبدئيّة جانباً ويتخلّى عن منطلقاته الدّينيّة والإنسانيّة، فيعارض واجباً شرعيًّا وأخلاقيًّا كتصدّي المقاومة بعنوان الإسناد من أجل الدّفاع عن شعب يُباد، مع ما تملكه من قوّة تمثّل حُجّة عليها في الدّنيا والآخرة، ومع ما لعدم التَّصدِّي من التّبعات على صعيد لبنان والمنطقة، وهو الذي أكّد - كما مرّ - أنّ القضيّة الفلسطينيّة لها مثل هذا الارتباط الوثيق بمصيرنا ومصير الأُمّة. وليس لأحد أن يدّعي أنّ الإمام الصّدر في مثل هذه الظّروف كان من الممكن أن يتخلّى عن خيار المقاومة أو أن يفرّط في سلاحها؟ أوَهل انتفت موجِبات اللّجوء إلى حمل السّلاح والدّفاع عن النّفس منذ زمن الإمام الصّدر إلى يومنا هذا؟!

ألا تؤكّد اعتداءات الكيان الصّهيونيّ اليوميّة وتصريحات المنبطحين من السّياسيّين كوزير الخارجيّة الذي أقرّ منذ أيّام بأنّ أقصى ما يملكه لبنان من أوراق قوّة هو البكاء عند أعتاب الولايات المتّحدة، أنّ العلّة الموجِبة للمقاومة ما زالت قائمة، وأنّ التّاريخ يعيد نفسه، وأنّ الكلام هو الكلام؟! قال أعاده الله سالماً: "إذا كانت السّلطات لا ترى وجوب الدّفاع عن الجنوب، فلا يمكننا أن نجد مبرّراً لعدم دفاع النّاس عن بيوتهم وعن قراهم". وقال كذلك: "إنّني أعتقد أنّ من واجب كلّ إنسان في لبنان، أرادت السّلطة أم لم ترد، أن يتهيّأ، أن يتدرّب وأن يتسلّح؛ نعم، أن يتسلّح كعليّ بن أبي طالب (ع)". فليعالج المعنيّون مسبِّبات المبادرات الشّعبيّة كالمقاومة بدلاً من مطالبتها بتسليم السّلاح، وإن لم يجدوا مستنَداً في المنطق والتّاريخ والقانون الدّوليّ لسرديّتهم القائمة على شيطنة المدافعين عن أنفسهم ووطنهم وأُمّتهم، فأنّى لهم أن يجدوه في فكر إمام المقاومة السيّد موسى الصّدر؟!