كتبت ليلى عماشا:
مقالات
كتبت ليلى عماشا: "رسالة من "قرى الحافّة" إلى "الدّولة اللبنانية".
6 آب 2025 , 08:38 ص

وصار اسمُنا "أهل قرى الحافّة"، بعد أن كُنّا "أهل القرى المحرّرة" وقبلها "أهل الشريط المحـ.ـتلّ"..

منذ العام ١٩٤٨، يرتبط اسمنا، نحن أبناء عاملة المولودين من رحم القرى الحدودية، بالحر ب. ومنذ العام ١٩٤٨، نحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الخضوع المؤدّي للفناء وإمّا المـ.ـقاومة. ولمّا كان الخيار الأوّل لا يشبه الجبل الذي في ظلّ عزّته كبرنا، ولا يشبه الروح الـثـ.ـورية التي منها تجرّعنا معاني الـ.ـثورة ونــ.ـصرة الحقّ، وفي كنف أهلها جيلًا بعد جيل تعلّمنا أن الخضوع يناقض قيمة الإنسان، وأنّ الخنوع يعرّي فاعله ويجرّده من إنسانيّته، اخترنا، بكامل وعينا وفطرتنا الإنسانية أن نقاوم..

على الرغم من الأثمان الباهظة، وحجم البذل الذي بلغ حبّات العيون وروح الروح، لم نتخّذ ليل المساومات جملًا، ولا رضينا بغير عزّة المـ.ـقاومة طريقًا، ننتصر فيها، شـ.ـهداء في تراب الأرض مثوانا، أو أعزّاء فوقها لا يُطأطأُ لنا رأس ولا يطالنا ضيم.. كذا وُلدنا، كذا كبرنا، وكذا نموت..

أمّا بعد؛

بلغنا أنّ "الدّولة" في لبنان عزمت على نزع السلا ح الحامي لشرفنا الإنساني ولحقّنا في أرضنا، ولوجودنا فيها أحرارًا.. وبلغنا أنّ دول العالم كلّه تنتظر من "الدولة" إتمام هذه الخطوة بأسرعِ ما أمكن، وإلّا.. وعليه، لنا كلمة نذكّر فيها الدّولة بمن نحن.. لعلّ غاب عن ذهنها من نحن، أو من شدّة الضغط عليها سقط من بالها سهوًا من نكون..

أيتها "الدولة":

نحن أهل القرى التي منذ ١٩٤٨ تحيا على شفير المواجهة المستمرّة مع عدوّ لم يرحم أطـ.ـفالنا من بطش المجارز، ولم يتوانَ عن خطف وأسر وقـ.ـتل خيرة شبابنا، ولم يتأخّر عن استباحة ترابنا ومائنا والسما التي تظلّلنا، ولم يتردّد في قـ.ـتلنا جماعات وفرادى.. وللمفارقة، منذ ١٩٤٨ أيضًا لم نرَ مظهرًا من مظاهر "الدولة" يتولّى حمايتنا، أو حتّى يستنكر انتهاك حرمة قرانا!

نحن الذين عشنا تحت وطأة الاحـ.ـتلال وصار اسمنا "الشريط الحدودي" طوال سنوات وحتى العام ٢٠٠٠، كنّا نطفىء أنوار بيوتنا في الليل كي لا يستفزّ ضوؤها الـ.ـعـ.ـدوّ وعملاءه، وكنا نُبعد فتياننا طوعًا إلى بيروت والمهجر كي لا يُجبروا على "الخدمة" في جيش العملاء، وكُنا نُخطف ونُعتقل في مراكز الـ.ـعـ.ـدوّ الأمنية وفي معتقل الخيام، وكُنا نقـ.ـتل من دون ذريعة، وكُنا ننتهك من دون أن يفكّر في حمايتنا أحد، إلّا المـ.ـقاومة!

أيتها "الدولة":

نحن الذين ما انتظرنا أن تقومي بما يجب عليكِ، فلا الوقت اتسّع لترف انتظارات عقيمة، ولا تبدًت لنا بوادر توحي باحتمال أن تتحرّكي لأجلنا، فقاومنا بلحمنا الحيّ، بالزيت المغليّ، بالكانيوشا وبالصوا ريخ الدقيقة.. وقبل كلّ ذلك "بالروح يلي بتقاتل"... ولأنّ الحقّ بالدفاع عن النّفس هو حقّ إنساني طبيعيّ، ولأن واجب حماية الأرض والنّاس لا يحتمل التأجيل ولا التأخير ولا "التطنيش"، غابت "الدولة"، وقصّرت، فكانت المـ.ـقاومة.. وستظلّ المـ.ـقاومة!

واقعًا، طوال هذه السنين، لم نرَ سوى شبّانًا تفوح منهم رائحة ترابنا المخضّب بالعزّة، يقاتلون فيردّون بكفوفهم وبدمهم عنّا كيد العدا.. لم نرَ درعًا يحمي وجودنا وكرامتنا وأرضنا وأرواحنا إلّا سلا حًا تجتمع الدنيا عليه اليوم، وسنحميه بأشفار عيوننا.. لم نتعرّف وجه "الدولة" في أيً حزن لنا، وفي أيّ جرح مسّنا.. وأكثر من ذلك، لم نطلب منها ما لا تستطيعه، ولم نعاتبها على التقصير المتراكم سنينًا فوق سنين؛ قامت المـ.ـقاومة بما على الدولة من واجب الحماية والأمان، من دون منّة، والتزمت ردع الـ.ـعـ.ـدو لا عنّا وعن أرض الجنوب فقط، بل عن كلّ شبر من أرض "الدولة"، حتى بلغت مرحلة جعلت لبنان كلّه بمأمن من بطش الـ.ـعـ.ـدو منذ العام ٢٠٠٠، والعام التحرير، حتى في العام ٢٠٢٤، مرورًا بحرب تموز ٢٠٠٦ التي سطّرت فيها المـ.ـقاومة نــ.ـصرًا مبينًا جعل الـ.ـعـ.ـدو طوال سبعة عشر عامًا بعدها، يتحاشى حتى مرور دوريّات جنوده بمحاذاتنا.

أيتها "الدولة":

اليوم؛ نحن أهل القرى الممنوعة من إعادة الإعمار بعد أن دمّرها الـ.ـعـ.ـدوّ، تدميرًا شبه كامل، أهل القرى المستباحة أراضيها، والمنتهكة حرمات بيوتها وأرزاقها، أهل القرى المرصّعة بفوح الشـ.ـهداء الأقمار الصابرة على الضيم وعلى الغدر، وعلى ظلم "الدولة"، نرى كيف يستمرّ الـ.ـعـ.ـدوان علينا لا من طا ئرات الـ.ـعـ.ـدو ورصــ.ـاصته فحسب، بل في الخطابات الرسمية الممهورة بصوت "الدولة".

نعم، نحن أهل القرى الذين حُرم معظمهم العودة إلى بيوتهم وأرزاقهم، اليوم مُطالبون بالاستسلام، بتسليم السلا ح الذي ما عرفنا غيره درعًا يصدّ عنّا القـ.ـتل.. مطالبون بالتخلّي عمّا لم نعرف سواه حِمىً وحصنًا.. ومقابل ذلك، لم نسمع وعدًا واحدًا بحمايتنا، ولا بادرة واحدة توحيبنيّة الدولة أو عزمها على صون أرضنا وأرواحنا.. حتى إنّه لم يزر بيوتنا المنكسرة قلوبها ممثلّ من أيّ درجة عن الدّولة، ولم تذرف لأجل جراحنا دمعة من عين "الدولة"! بذلت المـ.ـقاومة في حرب حماية لبنان من شرّ الإبادة أغلى ما عندها، ولم نسمع صوت الدولة مرّة يحدّث عمّا بذلت المـ.ـقاومة وبذلنا.. وفي الوقت الذي كنّا نُقـ.ـتل فيه وتتناثر أشلاؤنا بين الحريق وبين التراب.. كنّا نقـ.ـتل مرّة ثانية بأن تُنتهك حرمة موتنا بالكلمات الشامتة والخطابات الجارحة ومن دون مبالاة "الدولة"..

الآن، تطالبنا الدّولة بالانتــ.ـحار، بالاستسلام المؤدي إلى سوقنا للذّبح كخرافٍ لا تملك حتى حقّ الاعتراض.. وتتجاهل أنّنا نحن من يقف في الجهة المخوّلة بالمطالبة، وأنّ عليها، بحسب كلّ الشرعات والمواثيق الدولية، الاستجابة لمطالبنا، نحن أهل الأرض، لا لضغوط الخارج! نحن أصحاب الحقّ بالمطالبة بأبسط حقوقنا الإنسانية ومنها أن تقوم الدولة بإعادة الإعمار، وبوقف الاعتـ.ـداءات الهمجية المتواصلة، وبحماية أرواحنا وممتلكاتنا، وتقدير بذلنا وتضحياتنا.. وعليها الاستجابة وتحقيق كلّ ذلك بكلّ السّبل، قبل الحديث عن حصر السلا ح بيد الدولة..

شرّ البليّة ما يِضحك! يقول مثل شعبي عتيق، "رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا" وهو ينطبق حرفيًا علينا؛ فقد رضينا بهمّ أن نحمل وحدنا مسؤولية حماية للبلد، ورضينا بهمّ أن تتجاهل الدولة أبسط حقوقنا المعيشية والإنسانية، ورضينا بهمّ أن نُقـ.ـتل مرّة على يد الـ.ـعـ.ـدو ومرة على يد عجز الدولة، لكنّ هذه الأخيرة، عوض القيام بما عليها، في حدّه الأدنى، جاءت تطالبنا بالموت بصمتٍ مستسلمين، وبعدم إحراجها بوجودنا أحرارًا معزّزين..

باختصار، نحن أهل التضحيات الجسام، والعزّة المنقطعة النَظير، لسنا في موقع من يُطالَب بالخضوع وبالذلة، بل هذا في من يُطالب "الدولة" بالقيام بما عليها، وبسرعة واتقان، وبعدها، يقول المثل الشعبيّ أيضًا "لكلِّ حادثٍ حديث"!

المصدر: موقع إضاءات الإخباري