في مرحلة ما بعد سقوط النظام السوري السابق، تقف دمشق الجديدة و«قسد» أمام مفترق طرق حاسمة في شمال وشرق سوريا، التوازنات الدقيقة في هذه الرقعة الجغرافية، بين ضغوط أمريكية وضبط تركي وحذر إقليمي، تجعل من أي قرار سياسي أو عسكري مغامرة قد تعيد المنطقة إلى مربع الصراع أو تفتح نافذة نادرة للاستقرار.
دمشق : بين استعادة السيادة وإدارة التعقيدات
القيادة الانتقالية في دمشق، تضع نصب عينيها استعادة السيطرة الكاملة على كامل التراب السوري، بما في ذلك مناطق النفط والقمح شرق الفرات.
الهدف واضح: الاستفادة من الثروات إنهاء أي مظاهر حكم موازٍ، ودمج البنية العسكرية لـ«قسد» في مؤسسات الجيش والشرطة، مع الإبقاء على حدّ محدود من الإدارة المحلية، ليس انفتاحا بقدر ما هو تكتيك لضبط المرحلة الانتقالية.
«قسد»: بين الضمانات الوجودية وحسابات الوقت
من جانبها، تدرك «قسد» أن أي انسحاب أمريكي كامل سيكون تهديدا وجوديا لها، لذلك تتمسك بمطالبها في ضمانات دستورية للحقوق الثقافية والسياسية، ودمج مؤسساتها ضمن الدولة مع بقاء قوة أمنية وعسكرية محلية وإدارة مدنية شبه مستقلة، وفي ظل هذا الموقف، يزداد اعتمادها على المظلة الأمريكية التي باتت تواجه بدورها ضغوطًا إقليمية ودولية متزايدة.
واشنطن وأنقرة: لعبة الوقت والحدود
الولايات المتحدة تميل إلى حل سياسي متدرج يحفظ استقرار شرق الفرات ويحول دون عودة الفوضى، لكن تركيا تتحرك في اتجاه مختلف، إذ تدفع نحو حسم عسكري سريع يقطع الطريق أمام أي صيغة للحكم الذاتي الكردي، التعاون العسكري المتنامي بين أنقرة ودمشق في هذه المرحلة، رغم التباينات، يقوم على هدف مشترك: إنهاء نفوذ «قسد» وقطع صلاتها مع حزب العمال الكردستاني.
الميدان: تحشيد وتحريك للبيادق
المشهد الميداني يكشف أن الأمور تسير نحو مواجهة محسوبة، دمشق تحشد قواتها وعشائرها على محاور أثريا – الرصافة وفي مناطق التماس المباشر، فيما تكثف تركيا دورها الاستخباراتي والدعم اللوجستي لتحركات الفصائل والعشائر ، في إشارة إلى أن الخيار العسكري لم يعد مجرد ورقة ضغط بل تحول إلى سيناريو جاهز للتنفيذ إذا تعثرت المفاوضات.
السيناريوهات المحتملة
1. دمج تدريجي بضمانات (الأقل انسجاما مع الواقع التركي): تسليم تدريجي للمعابر والحقول، دمج أمني على مراحل، وبقاء مظلة أمريكية محدودة لضبط الإيقاع وضمان الحقوق المحلية.
2. حل وسط مضطرب: تنفيذ جزئي للاتفاق مع استمرار الخروقات وتأجيل القضايا الخلافية حول اللامركزية والدستور المؤقت.
3. حسم عسكري بتنسيق تركي-سوري (الأقرب إلى الدفع الميداني): عملية محدودة أو واسعة النطاق لإنهاء سيطرة «قسد» على مفاصل استراتيجية شرق الفرات، مع تقليص الدور الأمريكي تدريجيا.
تركيا تفتح الباب للحسم… وإسرائيل تراقب
في شرق الفرات، باتت أنقرة هي الطرف الأكثر اندفاعا نحو الخيار العسكري، مستعدة لتقديم الغطاء السياسي والدعم اللوجستي لدمشق من أجل إنهاء الوجود المسلح لـ«قسد». هذه المقاربة تنسجم مع عقيدتها الأمنية القائمة على منع أي كيان كردي على حدودها، لكنها أيضًا تحمل في طياتها رسائل ردع إقليمية.
في المقابل، تتابع إسرائيل التطورات بعين استراتيجية؛ فهي ترى في أي انهيار لسلطة «قسد» فرصة لإضعاف النفوذ التركي وادخال الأتراك في أزمة قومية .
لكنها تخشى أن يؤدي الحسم العسكري إلى تعزيز قبضة دمشق وحلفائها على خطوط الإمداد نحو العراق، ما قد يعيد تشكيل موازين القوى في الجبهة الشمالية بأكملها.
بهذا المعنى، فإن المعركة على شرق الفرات ليست فقط صراعًا على الجغرافيا، بل فصلًا من معركة إقليمية أوسع، حيث تتقاطع حسابات القوة بين دمشق وأنقرة وواشنطن وتل أبيب، وكل طرف ينتظر لحظة الانقضاض أو التراجع وفقا لإيقاع الميدان .