قبل خطاب رئيس الجمهوريّة في عيد الجيش منذ حوالي أُسبوعين، كنّا نكتفي بالحثّ على التّدقيق في لحن القول والقراءة بين السّطور. أمّا الآن، بعد أن صدقت الظُّنون، لم نعد بحاجة إلى ذلك. ولم يبقَ مجال لإصرار البعض على تأويل الواضحات بأنّها مناورات سياسيّة تسعى لحفظ التّوازنات، إنّه درس لا بُدّ من فهمه جيّداً: ليست الحكمة في محض التَّحلِّي بحُسن الظَّنِّ لأجل حفظ المصالح العامّة، وإنّما الحكمة أن تضع حُسن الظَّنِّ بمواضعه الصّحيحة، لا سيّما أنّ من تُحسن الظَّنَّ به في المقام قد لا يكون حُرّا في اختياره ليكون المعيار اتّفاقه مع تشخيصك للمصلحة العامّة. وما أُريد حفظه من توازنات قد ذهب واندثر، ولم يبقَ لديك إلّا ديمقراطيّة عدديّة مُنعتَ من استثمارها يوم كانت الأُمور على ما يُرام، وقوّة فعليّة متمثّلة بسلاحك وهي اليوم محلّ الكلام.
أشدّ المحلّلين والمعلّقين على السّياسة اللّبنانيّة مسؤوليّةً وأكثرهم زهداً في النّمط المتهوّر القائم على الإرجاف والقيل والقال وما يُسمّى بـ "التّصريحات النّاريّة" يقولون أنّ ما حصل هو انقلاب من شأنه أن يقضي على لبنان، وبغض النّظر عمّا إذا كانت المؤامرة ستنجح أم لا، إنّ ما قام به الرّئيس جوزيف عون هو أمر خطير جدّا. ولئن جمعت القرائن والمواقف المتراكمة حتى اللّحظة ستضطرّ للسّؤال عمّا إذا كان ما بدا منه خضوعاً تحت الضّغوطات، أو تعبيراً عن مواقف يضمرها دفعته للسّماح باستكمال الحرب الدّوليّة على المقاومة وبيئتها، أم أنّها مقتضى العلاقات الحميمة مع دول يصدح التّاريخ بأمثلة غدرها بالزّعماء والأقلِّيَّات؟!
وكيفما كان فإنّ انقلاب هذه الدّولة على مبدأ التّوافق والميثاق الوطنيّ باتّخاذ الحكومة قراراً بوضع جدولٍ زمنيّ لنزع السّلاح، ولم تكن أُولى أماراته خطاب رئيس الجمهوريّة في عيد الجيش، ولا عدم تصدّي الدّولة لشيء من الخروقات الاسرائيليّة طيلة هذه الفترة، ولا حتى عدم انتشار الجيش اللّبنانيّ على الحدود الجنوبيّة. فالقضيّة باتت واضحة؛ لم يحصل انقلاب أصلاً. غاية الأمر أنّ مَن تسلّق على وطنيّتنا ليصل إلى الزّعامة يريدها طعمة وليس أمانة، فلنصدّق أعيننا ونعمل على أساس ما اختاره المتهوّرون في هذا البلد بدلاً من تكليفه ومن معه بما لا يطيقون. فقد اعترف أمس بالفم الملآن: "لديّ خيار من اثنين: إمّا الموافقة على الورقة ومطالبة العالم الحصول على موافقة إسرائيل، أو عدم الموافقة ورفع وتيرة الاعتداءات وعزل لبنان اقتصاديّا".
ولبراعته جمع بين الخيارين فكان لبنان "مثل الفواخرة، لا دُنيا ولا آخرة". ذلك أنّ الموافقة على الورقة اعتماداً على المجتمع الدّوليّ العاجز عن إيقاف الإبادة الجماعيّة في غزّة، بل عن إلزام العدوّ الصّهيونيّ بتطبيق اتّفاق وقف إطلاق النّار في لبنان، أحقّ بما تلفّظ به في خطاب عيد الجيش عندما وصف المسار الذي حرّر لبنان يوم عجزت الدّولة بـ "المأساة والتّشرذم والانتحار"! لا أدري، هل هي الانعزاليّة ونزعة الاستثنائيّة التي يرثها مَن لا يتأمّل في حقيقة أمريكا فتفوته مثاوي من سبقه من الخانعين، أو ساقه الإمعان في حلاوة وعوده فعميت عيناه عمّا في إصبع من تصافحه؟! ولعمري ما قيمة البيانات والاستدراك المصطنع أمام التقاط الصّور التّاريخيّة في محاولة لوضع لبنات التّطبيع؟!
لنا أن نسأل صاحب العهد الجديد: ما الدّوافع من وراء التّلاعب بترتيب اتّفاق وقف إطلاق النّار، ولمصلحة من سوى الطّامعين بـ "إسرائيل الكُبرى"، بعد أن كان ترتيبها في غاية الوضوح؟!
فقد صرّح الرّئيس عون في شباط بأنّ "المهمّ هو تحقيق الانسحاب الإسرائيليّ، وسلاح حزب الله فيأتي ضمن حلول يتّفق عليها اللّبنانيّون"، وقال في نيسان أنّ الانسحاب الاسرائيليّ من الأراضي اللّبنانيّة ضروريّ للاسراع باستكمال انتشار الجيش حتى الحدود، بحيث تتولّى الدّولة وحدها مسؤوليّة أمن الحدود. وهذا اعتراف صريح بأنّ ما يعيق "بسط سلطة الدّولة اللّبنانيّة على كافّة أراضيها وسحب سلاح جميع القوى المسلّحة – ومن ضمنها حزب الله – وتسليمه الى الجيش اللّبنانيّ" (البند رقم 3) هو عدم "انسحاب اسرائيل خلف الحدود المعترف بها دوليّا وإطلاق سراح الأسرى" (البند رقم 2)، وعدم التزام الجانب الاسرائيليّ بـ (البند رقم 1) الذي ينصّ على "وقف فوريّ للأعمال العدائيّة الاسرائيليّة، في الجوّ والبرّ والبحر، بما في ذلك الاغتيالات".
ولهذا قال في نيسان بأنّ وجود إسرائيل في جنوب لبنان "يعطي حزب الله ذريعة" لمواصلة تسليحه، داعياً الولايات المتّحدة إلى الضّغط على إسرائيل للانسحاب. وأمّا في عيد الجيش، بعد أن استقرّت نتائج الدّبلوماسيّة الذّليلة وعجزت الدّولة عن تثبيت الواقع الميدانيّ واستثماره سياسيّا، صعد الرّئيس عون المنبر وخاطب المقاومة وبيئتها قائلاً: "أنتم أشرف من أن تخاطروا بمشروع بناء الدّولة، وأنبل من أن تقدّموا الذّرائع لعدوان يريد أن تستمرّ الحرب علينا". فبعد أن كانت إسرائيل هي التي تعطي الذّرائع للمقاومة، صار العكس هو الصّحيح، وصار السّبيل إلى الضّمانات التي ما برح ينفي المبعوث الأمريكيّ وجودها تجريد لبنان من أوراق قوّته قبل تأمين البديل، أما مِن أحد يجرؤ على تذكير رئيس الجمهوريّة بمخاطر "معالجة" الآثار قبل التَّخلُّص من العلل؟!
كيف يؤتمن على الدّفاع عن جميع اللّبنانيّين مَن يستنكر تدخّلات القوى الخارجيّة مِن دون أن يذكر مصاديقها ولو من باب الشَّفَّافيَّة، بينما يطلق يد الدّول المقابلة في حصارها الأمنيّ والسّياسيّ والاقتصاديّ على الشّيعة وبيئة المقاومة؟! لا يمكن الجمع بين ادّعاء الحرص على لبنان والسّماح للخارج بمحاولة قمع أكبر مكوّن اجتماعيّ في البلد، وأنت تعلم جيّداً ما وراء الحصار المفروض على هذا المكوّن من رؤى وتطلّعات، وأنّ الهدف منه هو القضاء على طائفة أثبتت بالدّم مدى وفائها للوازم هويّتها العقائديّة والوطنيّة. هل يتوجّب علينا فعلاً إلفات النّظر إلى أنّ قولك بأنّ المقاومة وبيئتها تعطي ذرائع للاسرائيليّ يلزم منه التَّخلِّي عن مسؤوليّة الدّفاع عن لبنان وسائر ما التزمت به من واجبات في خطاب القسم ولقاءات متعدّدة، وأنّ معنى الاقرار بالعجز عودة هذه المهمّة إلى المقاومة؟!
أُعيد وأُكرّر، لا يجب تحميل الرّئيس عون ما لا يطيق، وربّما يكون الأمر كما تلوّح قيادة المقاومة من أنّ رئيس الجمهوريّة ليس مهندس هذا الانقلاب. ولكنّ القدر المتيقّن هو أنّ كلّ ما تقوم به الدّولة حاليا نابع من رهان سلطة الوصاية على شعور المقاومة بوجوب الحفاظ على السّلم الأهليّ، ولذا ستستمرّ في الضّغط والتّآمر على الشّيعة وأحرار لبنان الذين يمثّلون الأكثريّة العدديّة – وبأبشع الطُّرُق والقرارات – لا سيّما في القضايا الحسّاسة والأُمور المصيريّة حتى تضع المقاومة حدّا لها. يجب أن تُعاد الأُمور إلى مظانّها. في وطنٍ لا يسعنا، ويرى القيّمون عليه استقلالنا مبرّراً للعدوان علينا، لعلّ الأولى أن نضحّي به، لا بأنفسنا لأجله. إنّها محض أفكار تجول في البال.