"قصة قصيرة".

باكراً استيقظت، توضَّأت وصلَّيت.

الفجرُ يُزيحُ عن كاهِلَيْهِ آخرَ الظِّلِّ، ويتأهّبُ لِاحتِضانِ الطَّلْعَةِ

البهيّةِ لِخيوطِ الشمسِ الذهبيّة.

لقاءً غامرًا بالسعادةِ كان.

ما أجملَ أن تغمرَ محبّةُ الحيِّ القيّومِ صاحبَ الإيمان!

ما أبهى تلكَ اللحظةَ في الأنام. حيثُ ترى نفسَك فيها بِعَينِهِ التي لا تنام !

فنجانَ قهوةٍ، تناولتُ وخرجت، تلك التلّةَ بِعَيْنِها قَصَدْت.

مِنَ المُصادفاتِ الغريبةِ، أنّني لم أَجِدْها في المكانِ مُقِيمَة! جَلَسْتُ..رُحتُ أَرْقُبُ الفضاءاتِ المفتوحةَ على احتمالاتٍ عديدة، مُضِرَّةٍ ومفيدة.

لم يمضِ من الوقتِ طويلاً. أبصرتُها ظَهرَها حانيةً، على عصاها مُتَوَكِّئةً، وراءَها ظلاً ظليلاً مُلْقِيَة.

أبصرَتْني فابْتَسَمَتْ، وعن دَهْشَتِها كَشَفَتْ، صَبَّحَتْ وسألتْ:

-- ما الذي دعاكَ إلى هذاالْبُكور؟ أَحُزْنٌ أم سُرور؟

-- صباحُكِ نورٌ يا عزيزتي الخبيرة. يا من تُراعِينَ حقوقَ الأهلِ والجيرة، وبعدُ؛

سُبْحانَ مُبَدِّلِ الأحوال، ومُحَفِّزِكِ على طَرْحِ هذا السؤال. لا تحملي همَّاً، لا خوفاً ولا غمَّا، فأنا في غايةِ السرورِ والحُبور، بعدما رسمتِ لي بالأمسِ مشهدًا مشحونًا بألفِ حَدسِ، وبالْحَذَرِ والْحِيطةِ، والسوداويّةِ المُرَّة، وأنا في طريقِ الْعَوْدَةِ إلى الحيِّ والبلدة؛ أحسستُ الطّمَأْنِينَةَ، الهدوءَ والسكينةَ.

شعورٌ رائعٌ!أليس كذلكَ ياعزيزتي الحزينة؟

-- أُخبِرُكَ أمراً .

تعالَ اَجِلِسْ إلى جانِبي.

--(حدَّثْتُ نَفسي بِالْهَمْسِ، لم أسأل. فَهمْتُ ما تُخْفِيهِ بالحدسِ) كانتِ اِبْتِسامَتِي هادئةً مصحوبةً بِدَمْعَتَيْنِ مِنْ مَعِينٍ إنسانيٍّ عَذْبٍ نابِعَتَيْن.

-- جميلةٌ هذه السكينةُ.(قالت وأضافت):

ما أودُّ تِرْدادَهُ: آياتٌ مِنَ اللهِ منزّلة:

"أنتَ بِأعْيُنِنا".

"لا تحزن إنَّ الله معنا".

" ما ظنُّكَ بِرَبِّكَ الكريم"؟

صحيحٌ أنّ هَجْمَةَ الذئابِ الدمويَّة، يُلاقيها نُباحُ كِلابٍ داخليّة، وضُباحُ ثعالبَ خارجيّةٍ كبيرةٍ وصغيرة، وحميرٌ مَخْصِيّةٌ بْرَبْطاتِ عُنُقٍ مَشْنُوقَة، وإلى شياطينِها مَشْدُودَة.

لا يُخِيفَنَّكَ كُلُّ هذا الصِّياحِ، ولا الضُّباحُ ولا النُّباح، ولا أبواقُ النَّفِير.. {إنَّ أنْكَرَ الأصواتِ لَصَوْتُ الحمير}.

نَهيقٌ وزفير.قمحٌ وشعير. نوم وشخير.

كلُّ هذا قالٌ وقِيل. تَهْوِيلٌ بِتَهْوٍيل، فلا تَخْشَ أحداً في الوجود. اللهُ في ساحِنا مَوْجُود.

-- نِعْمَ باللهِ ربِّنا معبوداً ونصيرا. أعلمُ أنَّهم عن مَنْعِهِ منْ ساحِنا لَعاجزون،فلايَحْزُنْكَ ما يُخَطِّطونَ ويَكِيدُون.

عِنْدَ النِّزالِ تَجِدْهُمْ على أعقابهم يبولون ويَخْرَأون.

-- هل بعدُ مِنْ مَزيد، أو تدبيرٍ جديد؟

-- أجل.

ما رَْأيُكَ في هذه الحال، بَعْدَما أبو رغالٍِ في البلادِ صالَ وجال، وأكثَرَ في الأرضِ الأَنجال؟

مع الأسفِ الشديد. هذا الْوَغْدُ صارَ أُسْرَة،أضْحى جماعَةًبِرَبْطاتِ عُنُق، بِزَّاتٍ رسميّةٍ واسْتِقْبالاتٍ، بِالسَّنْجَقِ والْبُزُق، بِالزَّمْرِ والطَّبْل.

أعوذ باللهِ مِنَ الطُّبُول؛ مُدَبِّرِي الْفِتَنِ مُخَرِّبِي الْعُقُول.

-- ما دَخْلُ أبي رغال من واقِعِ الحال؟

-- دَعِينِي أَقْرَأُ لَكِ الطَّالِع، فالنصوصُ تُقرأ من المطالع، أحفادُ ذلكَ الخائِن، أصحابُ السُّلُوكِ الشَّائِن. ظُهُورَ الرِّجالِ الأُباةِ كشفوا، وبخرائِطِ مَواقِعِ القتالِ إلى العِدا أَفْشُوا، وبأيدي اليهودِ أحفادِ الخنازيرِ والقرودِ إلى مَرابِطِ الأُسُودِ أَخَذُوا وشَدّوا.

هؤلاءِ التيوسُ أَحْنُوا لِلْمُحْتَلِّ ومُشَغِّلِهِ الرُّؤُوس. عنْ أبْرَهَةَ زِيْدِي. كَرَّرِي وأَعِيْدِي.

-- الأمرُ العجِيب. أنْ ترى جارَكَ القريبَ مُعاضِداً لِلْعَدُوِّ الغريب.

ومِنَ المَثالِبِ أنْ تَتَعاطَفَ الذِّئابُ مَعَ الثَّعالِب، وعَنْ أبي رِغالٍ أَقْرَأ. لا أَتَكَهَّنُ ولا أَتَنَبَّأ.

هذا الخائِنُ الدجَّالُ لَمْ يَرْعَ لِلْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ حُرْمَة، يَدَ أَبْرَهَةَ إلى تدميرِها أَخَذ، بعد إكمالِ الحِصار. إلحاقُ الدمارِ بالكعبةِ حُلُماً صار.

بعدَ الْفَشَلِ الذَّرِيْع، لاقَى مَصِيرَهُ المُرِيْع، هُوَ فِي قَبْرِهِ مَرْجُوم.

-- عن أَبْرَهَةَ زِيدِي، كَرِّرِي وأَعِيدِي.

-- مَساعِيهِ فُشِلَتْ، أَصابِعُهُ تهرّأتْ. لِأَنَّها على بَيْت ِاللهِ تَجَرَّأَتْ. حَلَّ بِهِ الحِمام. غدا مثل صغيرِ الحَمام.أصابَهُ الْوَباء.أَكْلَةٌ وقعتْ. بِهِ وبِجُنُودِهِ فَتَكَتْ، حَلَّ الْفَناء، لا قِيامَةٌ ولا رَجَاء .

هذا الأشْرَمُ، بِحَقِّ الْكَعْبَةِ أَجْرَم.

مَصِيرُهُ مَحْتُوم.موتٌ زُؤامٌ حَمِيم، وقَبْرٌ رَجِيم.

وعن جُنُودِ أَبْرَهَةَ خَبَرٌ طَوِيل.

هُم أصحابُ الفيل.

كيدُهم في تضليل.

طالِعُهُم ويلٌ وَبِيل.

تَرْمِيهِم طيرٌ أَبَابِيل، بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيل.

في أَمْرِهِمْ حَارُوا.

مِثْلَ عَصْفٍ مَأْكُولٍ صَارُوا.

الْفِيْلُ، وما أَدْرَاكَ مَا الْفِيْل. لَمْ تَقْصِدْهُ حِجارَةُ السِّجِّيْل. اسْمُهُ محمود. أَضْحَىٰ قائِداً غَيْرَ مَقُود. عن مَكَّةَ أَدْبَر، وإلى اليمنِ سَرِيعاً عَبَر. إنّهُ مُدَبَّر. مِنْ رَبِّ الْكَعْبَةِ مُسَيَّر.

-- سبُحانَ ربِّ الْعَرْشِ الْعَظِيم!

-- أعرفُ أنك عن دربِ الحقِّ والسيادةِ لا تَحِيد. أَطْلُبُ إلَيْكَ عن أحفادِ أبي رغال، أنْ تُخْبِرَ وتزيد، بما هو مختصرٌ مفيد.

-- أحْفادُ هذا الأفّاكِ الْمُحْتَقَر. صارتِ الخيانةُ عِندَهُم وجهةَ نظر. يَنْفُخونَ في البوق، يُثيرون الشرَّ الْمُسْتَطِر. مِنْهُم عَبْدُ المأمور. لا يَعِي إلى أَيْنَ تُجُرُّ قَراراتُهُ السودُ الأمور، ومنهم ذلكَ الَعَاقِر. حَفِيدُ الْعَجُوز. خَادِمُ الأمير، وبِهَدْيِهِ يَأْتَمِرُ ويَسِير.

هُوَ وَغْدٌ صَغِير. يَدَاهُ غَالَتا في دَمِ الْغَنِيِّ والفَقِير.

أَمَّا النَّافِخُونَ لِلْفِتْنَةِ في الْكُوْر، فَإلَى جَهَنَّمَ وبِئْسَ الْمَصِير. أصواتُهُم بِالْفِتْنَةِ صادحة. لأعدائهم مادِحة. لعلّها تؤثِّر، لا لَن تُقَدِّمَ ولا تُؤَخِّر.

من يظلمْ ويجورْ، يحصدْ نتائج الأمور.

-- أَعْرِف، فيومُ التَّحْرِير. ناموا على قلقٍ مِنْ سُوءِ المصير، واسْتَفَاقُوا على فُرُشٍ مِنْ حَرِير.

نعم. بِالأمْسِ مارَسُوا المُوْبِقات. ارتَكبَوا الجرائم. قَتَلوا. سَجَنوا. سَحَلوا. عَرْبَدُوا، ولما بزغ فجرُ الانتصارِ ولاح. لم يُمَسّوا من أولياءِ الدَّمِ بِخَدْشٍ أو جِراح.

-- أينَ رِجالُ القانون؟

-- بِشَهْرٍ أو شَهْرَيْنِ المُجْرِمَ يحكمون.

-- مَنْ هُوَ ضامِنٌ الحقَّ بعدُ يا حنون؟

-- سبحانَ مُبَدِّلِ الأَحْوال. اليومَ بلغَ السَّيْلُ الزُّبَىٰ، وبَلَغَتِ القُلُوبُ الْحَناجِر.

اليومَ طَاوَلَتِ الْأَلْسُنُ أَفْئِدَةَ المُدُنِ والْقُرَىٰ، ولَسَعَتِ الشَّمَاتَاتُ القُلُوبَ الْحَرّىٰ.

أَجَلْ، هؤلاءِ لَمْ يَدَّّخِروا لِلصُّلْحِ مَطْرَح ، ويُريدون لِلفِتَنِ أنْ تَسْرَحَ وتَمْرَح.

-- لِحِفْظِ الْمَصِيرِ أُوصِيك. لا تَنَمْ على حَرِيْر، ولِمَنْ يَشْحَذُ سَكاكِينَهُ قابِلْهُ بِما يَرُدُّ كَيْدَهُ ويَزِيْد، وَبَعْدُ وبُعَيْد، هَلْ مِنْ نِداءٍ مُفيد، يُحَذِّرُ. يُنَبِّهُ ويُزِيلُ عنِ الوَطَنِ التَّهْدِيْد؟

-- وحياةِ الرَّبِّ الْمَعْبُود . إذا فارَ التَّنُّور، واضْطَرَمَتِ النَّارُ في الحطب. لنْ يَبْقَى مِنْهُم مُخْبِر، ولِلْأُمُورِ مُدَبِّر.

-- وإذا وَقَعَتِ الْوَاقِعَة؟

-- لَنْ تَبْقَى على عُوْدٍ وَرَقَة.

-- أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ والشُّرُور والشَّحْنِ والإِحَن.

-- على نَفْسِها جَنَتْ بَرَاقِش ، فَإِذا فَرَكَتِ الْبَحْصَة(الْحَصاة) أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الزِّحَامِ وزَلّاتِ الْأَقْدَام. حِيْنَذاكَ سَنَرَىٰ وتَرَىٰ مَصِيرَ أَحْفَادِ هَذَا الدَّجَّالِ أسْوَدَ مِثْلَ السِّخَامْ.

-- ماذَا عَنِ الْأَشْبَالِ والْأُسُوْدِ خَبِّرْ؟

-- الْأَشْبَالُ والْأُسُوْدُ، قَسَماً بِالرَبِّ الْمَعْبُوْد، سَيُذِيْقُوْنَ هَؤُلاءِ حَرَّ السَّفُّوْدْ، ويُلَقِّنُوْنَهُم دُرُوْساً في عِشْقِ الشَّهَادَةِ والْخُلُود، في الْإِبَاءِ والشَّهَامَةِ والْوَفَاءِ بِالْعُهُوْد.

أللّٰـهُمَّ اشْهَدْ . إنَّني قرأتُ مِنْ على هَذِهِ التَّلَّةِ الْمشهد. فَأَنْذَرْتُ ونَادَيْت، والصوتَ أَعْلَيْت، وبِقَوْلِ العَلِيِّ هُدِيْتُ واسْتَهْدَيْت. أللّٰهُمَّ اشْهَدْ إنِّيْ بَلَّغْت:

{وَ قَدِمْنا إِلى‏ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً*}.

وَقَانَا اللهُ شَرِّ الفتنة

لعلَّ فِيهِم من سامع، وعن هذا السلوك المدمِّر قالع، والسلام ختام

آمين يا رب الأنام .

ملاحظة:

*- أبرهة الملقّب بالأشرم ملك حبشيّ الأصل، تغلَّب على اليمن، واستطاع الإطاحة بالملك سميفنغ أشوع،وتوَّج نفسه ملكاً على اليمن. قصد مكَّة لهدم الكعبة، ولم يكن هو وجيشه يعرفون مكانها، فسار الخائن ابو رغال أمامهم، لكنّهم فشلوا في هدم الكعبة، لأنّ الله ارسل عليهم طير الأبابيل.

عاد أبرهة محمولاً بعدما تهرَّأت أصابعه، وغدا مثل فرخ الحمام، ثمّ أُصيب بمرض الأكَلَة فمات.

*- أبو رغال هو أشهر خائن في تاريخ العرب ، لأنّه دليلُ أبرهة الأشرم الذي كان لا يعرف مكان الكعبة التي جاء قاصداً هدمها، فسار أبو رغال أمام أبرهة وجيشه، ولمّا وصلوا إلى المغمس قرب "عرفة ومزدلفة ومنى" أصابه مرض عضال أهلكه ودفن هناك، وظلّ قبره يُرجم من قبل العرب بعد فريضة الحج حتى بعد ظهور الإسلام

*- الفيل اسمه محمود، رفض التوجّه إلى الكعبة على الرغم من المحاولات العديدة لدفعه صوب البيت لهدمه، ولمّا وجّهوه إلى اليمن أسرع.

حفظه الله من الحجارة التي رمتها طير الأبابيل.

جبل عامل في: 29/8/2025