في قاعة أنيقة بجامعة "علوم بو" في باريس، جلس الجنرال المنشق مناف طلاس، ليقدّم محاضرته حول الشرق الأوسط وسورية تحديدًا. المناسبة لم تكن عابرة، فهي تأتي في وقت تعيد فيه فرنسا تموضعها في الملف السوري بعد عقد ونصف من الحرب، في ظل تحوّلات كبرى أفضت إلى نهاية النظام الذي حكم دمشق لعقود.
فرنسا وسورية: تاريخ لا ينقطع
منذ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان (1920–1946)، ظلّت باريس حاضرة بشكل أو بآخر في الشأن السوري. وعلى الرغم من أن الاستقلال أخرجها رسميا من المشهد، إلا أن أثرها السياسي والثقافي ظل ممتدا، ومع اندلاع الاحتجاجات السورية عام 2011، برزت فرنسا كأول دولة غربية تعلن رفضها لبقاء بشار الأسد، داعمةً المعارضة السياسية، ومتبنّية خطابا حقوقيا يحمّل النظام مسؤولية المجازر.
لكن السياسة الفرنسية لم تقتصر على الدبلوماسية، فقد اتخذت باريس مسارا قضائيا خاصا، فرفعت دعاوى ضد مسؤولين سوريين بتهم جرائم ضد الإنسانية، كما شاركت عسكريا في التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، غير أن هواجس الإرهاب التي ضربت قلب باريس دفعت السياسة الفرنسية إلى مقاربة مزدوجة مواجهة التطرف من جهة، والبحث عن استقرار إقليمي من جهة أخرى.
من المعارضة إلى الانتقال
في هذا السياق، يكتسب حديث مناف طلاس في باريس أهمية مضاعفة. فهو ليس ضابطًا عاديًا؛ بل نجل وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس، وأحد أبرز وجوه الحرس الجمهوري الذين ارتبطوا بدائرة الأسد الداخلية قبل أن يختار الانشقاق عام 2012، منذ ذلك الحين تحوّل بنظر البعض إلى رمز محتمل لمرحلة انتقالية، يجمع بين خلفية عسكرية ومعارضة سياسية.
المحاضرة التي دعا إليها خُصّصت لقراءة التحديات الإقليمية الراهنة، مع ترجمة فورية بين العربية والفرنسية. ورغم أن تفاصيل المداخلات لم تُنشر بالكامل، إلا أن الحضور أكد أن طلاس ركّز على معادلة إعادة بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية بعيدا عن الطائفية، وعلى ضرورة انخراط القوى الدولية، وفي مقدمتها فرنسا، في مرافقة السوريين نحو دولة وطنية حديثة وأكد على أنه مستعد للتعاون بهذا الأمر مع رئيس المرحلة الإنتقالية أحمد الشرع .
فرنسا بين المبادئ والمصالح
يبقى السؤال: هل تملك فرنسا القدرة على لعب دور محوري في مستقبل سورية؟ المؤشرات الأخيرة تقول إن باريس تسعى إلى توازن صعب، فهي لا تريد أن تكرر تجربة الانخراط الميداني المكلف كما حدث في ليبيا، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن غيابها يعني ترك الساحة لروسيا وتركيا وإيران.
غير أن ثمة بُعدًا آخر يفرض نفسه وهو العلاقة مع الأكراد. فقد شكّل الأكراد الحليف الأبرز لفرنسا والغرب في الحرب ضد "داعش"، واستفادوا من الغطاء العسكري والدبلوماسي الذي وفّرته باريس وواشنطن. ومع انفتاح فرنسا على قوى المعارضة العربية وشخصيات مثل مناف طلاس، طرح التساؤل حول ما إذا كان هذا التحوّل سيأتي على حساب الدور الكردي في مستقبل سورية، بعض المراقبين يرون أن باريس قد تسعى إلى إعادة توازن بين المكوّنات السورية، بحيث لا تبقى أسيرة "الورقة الكردية" وحدها، بل تضع ثقلها في مشروع وطني أوسع يضمن حضور الأكراد لكن دون أن يتحولوا إلى شريك حصري.
الخلاصة بين قاعة المحاضرة في باريس وذكريات الانتداب، يتضح أن العلاقة بين فرنسا وسورية لم تنقطع يوما، بل تغيّرت أشكالها،واليوم ومع انهيار نظام الأسد وظهور قيادات معارضة تحمل خبرة أمنية وسياسية مثل مناف طلاس، يبدو أن باريس بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية تستعد للعودة إلى دمشق بطريقة جديدة أقل وصاية، وأكثر شراكة. لكن السؤال يبقى مفتوحًا هل دخول الفرنسيين سيزعج الأتراك و هل ستنجح فرنسا في رسم دور إقليمي متوازن يحفظ لها موقعًا بين دمشق والأكراد، أم أن حسابات المصالح ستدفعها لترجيح كفّة على أخرى في معادلة معقدة لم تُحسم بعد؟