البشير عبيد – تونس
ما عاد في الإمكان إنكار أن الإنسان العربي اليوم يقف في قلب عاصفة وجودية ـ فكرية ـ سياسية، تُهدّد ليس فقط استقراره ومكتسباته، بل ووعيه بذاته وحدوده وتاريخه. لسنا هنا بصدد الانخراط في بكائيات الذات المهزومة، ولا في تكرار سرديات الانحطاط المألوفة، بل نحن أمام واجب النظر في مرآة اللحظة الراهنة بما يتيحه من أسئلة مصيرية تتعلّق بالمآلات، وبما يفتحه من أفق محتمل للاستئناف والمواجهة. إنه وعي متصدّع، ولكنّه لم يمت. وإنسان منهوك، ولكنه لم يسقط تمامًا. وهذا ما يجعل السؤال عن موقع الإنسان العربي اليوم سؤالًا متجددًا، عنيفًا، ومفتوحًا في آن، لا يمكن مقاربته من خارج تعقيدات الواقع، ولا من دون مساءلة سردياتنا التقليدية ومفاهيمنا البالية.
عبء اللحظة وسؤال الاستمرار
قد تكون اللحظة العربية الراهنة إحدى أكثر اللحظات التباسًا منذ عقود: نزاعات دامية، أنظمة عاجزة أو مستبدة، مجتمعات منقسمة، ونخب مرتبكة بين وهم الحداثة وخدر التبعية. في خضم هذا المشهد، يجد الإنسان العربي نفسه محاصرًا لا فقط بالقمع أو العنف، بل بالأهم: بالتفاهة والاستسلام. اللحظة الراهنة لا تكتفي بإسقاط المعنى العام، بل تعمل على تفكيك القدرة الفردية على الفعل. إنها لحظة تسعى إلى تحويل العربي من كائن سياسي ـ تاريخي إلى كائن مُدار، تُعاد صياغته وفق نماذج اقتصادية ـ ثقافية هجينة، تفرغه من أي طاقة مقاومة أو رفض. ومع ذلك، فإن استمرار هذا الإنسان في التمسك بالكرامة رغم الإبادة، وباللغة رغم التشويه، وبالذاكرة رغم النسيان، هو ما يجعل السؤال عن الاستمرار سؤالًا راهنًا ومشروعًا: كيف نبقى في العالم دون أن نفقد ذواتنا؟
مأزق النخبة وتكلّس المفاهيم
إذا كان الإنسان العربي الفرد يعاني من الهشاشة المعيشية والرمزية، فإن النخبة المثقفة العربية تعاني بدورها من أزمة وعي بالدور والمسؤولية. لم تعد النخبة ـ في أغلبها ـ حاملة لمشروع فكري أو رؤيوي، بل تحوّلت إلى جزء من المشهد الاستعراضي، محكومة إما بإغراءات السوق أو بسقف الأجندات الرسمية. هذا الانهيار في وظيفة النخبة ترافق مع تكلّس مفاهيم مركزية في العقل العربي الحديث: كالنهضة، والحداثة، والديمقراطية، والعقلانية، والتحرر. فقد تحوّلت هذه المفاهيم في كثير من الخطابات إلى قوالب خطابية جوفاء، غير قادرة على تفسير التحولات ولا على استشراف المسارات. في ظل هذا التآكل، يبرز سؤال مهم: من يعيد للوعي العربي قدرته على النقد والمساءلة؟ من يتجرأ على تفكيك المقدّسات الجديدة؟ من يملك شجاعة طرح الأسئلة الأولى من جديد، خارج كسل التكرار وضجيج التحشيد؟
العودة إلى الإنسان... لا إلى الشعارات
لسنا بحاجة إلى مزيد من الشعارات أو التوصيفات الكبرى. نحن بحاجة إلى استرداد الإنسان من داخل الواقع العربي: جسده، روحه، لغته، ذاكرته، وجرحه المفتوح. الإنسان العربي اليوم ليس "مجرد ضحية"، وليس "عدوًا للتقدم"، وليس كائنًا "متأخرًا زمنيًا" كما يحلو لبعض الخطابات المعولمة أن تروّج. بل هو إنسان مهزوم لكنه لم يُهزم تمامًا، منبوذ لكنه يبحث عن معنى، مرذول لكنه لا يزال يكتب ويغنّي ويحفر اسمه في صخور القهر. استعادة الإنسان لا تعني التماهي مع هشاشته، بل النظر في عمقها لاستئناف الفعل. أن نبدأ من سؤال: ما الذي يعنيه أن تكون عربيًا اليوم؟ ليس بوصفك انتماءً قوميًا أو عرقيًا فقط، بل بوصفك كائنًا في مفترق التاريخ والجغرافيا والرمز. إن هذا الاستئناف لا يمكن أن يكون فعلاً عفويًا، بل يتطلب مشروعًا تربويًا ـ ثقافيًا يعيد الاعتبار للمعنى، ويحرر الوعي من مركزية الاستهلاك والتبعية والتزييف. فالحرية تبدأ حين يتصالح الإنسان مع فكرته عن نفسه، ويكفّ عن استعارة صور الآخرين ليرى وجهه. من التصدع إلى الاستئناف: الممكن القادم رغم كل ما سبق، فإننا نؤمن أن الوعي لا يُقبر، بل يُقمَع، وأن الروح لا تموت، بل تُشوَّه، وأن هذا الواقع العربي ـ مهما بدا قاتمًا ـ لا يُغلق التاريخ، بل يحفّز على إعادة فتحه من زوايا غير مألوفة. المقاومة اليوم لا تقتصر على الجبهات ولا على الشعارات، بل تبدأ من المعرفة والكتابة واللغة والنقد. إنها مقاومة ضد الزيف، ضد التطبيع مع الرداءة، وضد التحايل على الألم الجماعي بالتبريرات الفارغة. يحتاج الإنسان العربي إلى أن يعيد امتلاك أدوات الوعي والتحليل، وأن يعيد مساءلة الأنساق التي تُعاد إنتاجها يوميًا تحت مسميات الحداثة أو التنمية أو الأمن. فالممكن القادم لا يولد من رحم الخضوع، بل من لحظة انكسار يتبعها وعيٌ جريح ينهض من رماده. ليس المطلوب أن نصوغ utopia جديدة، بل أن نبدأ من مساءلة الحاضر، وإعادة تمركز الإنسان العربي كذات مفكرة، لا كموضوع للمراقبة أو التوجيه.