٢/١٠/٢٠٢٥
كتب الدكتور ميخائيل عوض:
١
جيل زد هم من وُلِدوا بين منتصف التسعينيات وأوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتحديداً بين عامي 1997 و2012.
هم ظاهرة عالمية باتت لهم هوية عالمية، وثقافة، وقيم، وآليات تفاعل وتأطير وتنظيم جديدة، تنتمي إلى الثورة التقنية السابعة التي بلغت الذكاء الصناعي.
الثورة التقنية الرابعة خلقت نطاق تفاعل بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي، وحولت الأهم في الاقتصاد إلى اقتصاد المعرفة، أي العقل، أي الإنسان أثمن رأس مال.
الإنسان وجهده ونتاجاته المادية والذهنية اُغتُصِبَت مع النظم والتشكيلات الاجتماعية التي سادت في حقب تطور البشرية، واشتد فعل مصادرتها في آخر زمن النظام الرأسمالي بعد تحوّله إلى الليبرالية المتوحشة التي سعت لتشييء الإنسان وتحويله إلى روبوت يحقق قيم وغايات الشركات كقطعان بلا إرادة، منزوعة إنسانيتها، وبدون تحقيق حاجات الإنسان فرداً وجماعة: (الحاجات الروحية والمادية) ولا التنعم بقيم جهده لتعظيم الإنتاج وتحقيق الرفاه.
نبوءات ماركس تتحقق: العالمية / الإنسان أثمن رأس مال / الرأسمالية تصنع حفاري قبرها / الجديد يولد من رحم القديم / نفي النفي / والحضارة الإنسانية تتصاعد بحلقات لولبية / فالحدث أولاً مأساة ثم مهزلة والتاريخ لا يكرر نفسه / إنما البشرية ترتقي، تجرب، تتعلم، تبدع وتطور إلى الأعلى.
٢
منذ عقود بلغت الحضارة الإنسانية مرحلة العالمية، فاغتصبتها الليبرالية وحاولت تنميطها، أي أمركتها، فسمِّيت قسراً: عولمة.
٣
جيل زد تعرّف إلى الحياة ويعيشها كبشر عالميين؛ لم تعد حدود أو ضوابط أو وسائل سيطرة تحول دون تفاعلهم على مساحة الكرة الأرضية، فوسائل ووسائط السيطرة للنخبة الحاكمة انهارت، وانهارت الحدود اللغوية والجغرافية والهويات والقيم العتيقة والتقاليد وآليات التفكير والمسبقات والأديان والقواعد الناظمة من التقاليد الضابطة قسراً لحدود العقل.
٤
فالشبكات ووسائط التواصل كسرت كل القيود بما فيها قيود الزمن وحدوده.
صار الوعي واكتساب المعرفة حراً، وممارسة الليبرالية الذهنية بلا قيود وبلا تفاوت؛ فكل إنسان خلف الشاشة هو كالآخر على الطرف الآخر: لا طبقات، ولا قوميات، ولا وطنيات، ولا دعاة، ولا أديان تحول دون التفاعل والتفكير المشترك وإنتاج الأفكار.
هذه حالة لم تشهدها البشرية ولا عاشتها الأجيال السابقة منذ الخلق.
سرعة المعلومة وسهولة تحصيلها والتفاعل دون قيود أو حواجز أصبحت بيئة معاشها ومساحات واسعة ومفتوحة باتساع الأفق والإبداعات والإنتاجات لا يحدها إلا حدود الخيال.
٥
إنه عالم وعالمية معاشه ليس في العالم الافتراضي، إنما أصبحت تلامس وتحفر عميقاً في العالم الواقعي وتجلياته.
٦
لا تهابوا ولا تستنفروا، أنتم رجال الماضي المتسارع الرحيل.
نعم، إنها حقائق الحياة وحاجاتها وما أنتجه البشر أنفسهم، تُزْحِيكم إلى التقاعد أو الرحيل الأبدي؛ فليس سهلاً على من تمترس بالماضي ويقاتل بشتى السبل للتمسك بمكانته وهيمنته أن يقبل الإقالة أو الاستقالة طوعاً وقبولاً بحقائق الزمن وحاجات أجياله.
فحرب العالم الأنجلوسكسوني لإعاقة التطور ومحاولات إشعال الحرائق أينما كان، فعلٌ تقليدي مارسه من ساد قبله وهُزِم وسيُهزَم، وسيولد الجديد من رحم القديم ولو طال واشتد المخاض وهدرت سيول الدماء؛ فالجديد بدأ يطل برأسه وتبزغ شمسه ليصبح الواقع، وسيولد من حيث لا تدري ولا تتوقع القوى العتيقة القابضة على العالم القديم وتقاتل للإعاقة.
٧
هكذا هي مسارات وسلسلة حقب الارتقاء والتطور وتقدّم البشرية.
٨
جيل زد بدأ ينتزع مكانته ودوره ليفرض قيمه وآليات تفكيره وليحقق مصالحه وحاجاته.
في أمريكا خالف الحزبين، وكسر القيود، وثار الشباب والطلبة في جامعات النخبة، ويغيرون ويطلقون ذات الشعارات ويعملون لذات الأهداف، وعلى أول جدول أعمالهم: غزة والإبادة الجماعية.
في أوروبا ناهضون مكافحون أمميون يعملون بكد ووعي، ويطلقون أسطول الصمود العالمي، ويحفزون الشعوب للنهوض والمقاومة، وتتصاعد حركتهم ويطابقون شعارات الحرية والديمقراطية ورفض العنصرية والإبادة، ويدمجونها بمطالب وطنية اجتماعية؛ هكذا كانت تظاهرات فرنسا وشعارات نقاباتها.
٩
في النيبال قبل أيام كان جيل زد "بجعة سوداء" مفاجئة وفرض إرادته بسرعة البرق، ومنها انتقلت الشرارة إلى المغرب العربي، وانفجر جيل زد ٢١٢ ثورة اجتماعية طبقية بمطالب واضحة، والأهم بربط النضالات الوطنية والاجتماعية بالنضال الوطني والقومي الأممي، ولإسقاط التطبيع والتبعية، ولإسناد غزة والشعب الفلسطيني.
١٠
قبل أن يُخطئ الكُتّاب والخبراء وأبطال الفضائيات في فهم الظاهرة وقياسها على تجربة ما سُمّي بالربيع العربي، ليعلم الجميع أن الفارق نوعي وكبير، وننصح بالانتباه إلى طبائع جديد حراك زد وشعاراته والتزاماته واستهدافاته، والأهم: فالقوى والكتل والإعلام والأجهزة وجمعيات الـ NGOs وصيصان وكالة التنمية العالمية الأمريكية والتمويل الخليجي ودور الإخوان المسلمين والإرهاب المؤمرك استُنفِذوا وانكشفت حقيقتهم وأدوارهم، ولا قدرة لهم لاغتصاب التحرك الذي يقوده جيل زد وحرفه لتخديم مصالحهم، وهم في صلب القديم الذي دخل طور الرحيل.
١١
حراك جيل زد مختلف نوعياً في بنيته وشعاراته وقضاياه واهتماماته وفي التنظيم، وتالياً في النواتج.
جيل زد ودخوله معترك الحياة السياسية وسعيه للتغيير نذير وإرهاص أن زمن الإنسان وحقوقه واستعادته لإنسانيته قد أزف.
الإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان، وقد أزف زمنه وزمن خلاصه.
والعالمية حقيقة تاريخية وأهم حلقات تطور وارتقاء البشرية، ويتكوّن في العالم الجديد الجاري مخاض ولادته، وأهم علامته: جيل زد.
.../ يتبع
للاشتراك بقناة "لبكرة شو" على الرابط
https://youtube.com/channel/UCF1cJ18MEv87XTvTelwEtEg?si=Z5VEb0CwSa8ncOuK