في كل بيتٍ يُقصف في غزة، يسقط حجرٌ من جدار الإنسانية. وفي كل طفلٍ يُستشهد، تُولد فكرة جديدة: أن العالم لا يستحق البقاء إن لم ينصف فلسطين.
مقالات
في كل بيتٍ يُقصف في غزة، يسقط حجرٌ من جدار الإنسانية. وفي كل طفلٍ يُستشهد، تُولد فكرة جديدة: أن العالم لا يستحق البقاء إن لم ينصف فلسطين.
رانية مرجية
8 تشرين الأول 2025 , 21:02 م

فلسطين... حين يسقط العالم ويظل الإنسان واقفًا

مقال رأي في الضمير الإنساني المصلوب على أسوار غزة

بقلم: رانية مرجية

في هذا العالم، لم تعد المآسي تُقاس بعدد القتلى، بل بعدد المرات التي صمت فيها الناس.

وفي صمتهم الطويل، كانت فلسطين تصرخ وحدها.

كل بيتٍ يُهدم في غزة، كل طفلٍ يُسحب من تحت الركام، كل أمٍّ تنادي باسمٍ لا يُجاب،

هو مرآة لما آل إليه ضمير هذا الكوكب — ضميرٌ أصابه الشلل الأخلاقي،

فصارت المأساة الفلسطينية أكثر من قضية سياسية؛

صارت سؤالًا في جوهر الوجود الإنساني نفسه.

في البدء كانت فلسطين... وكانت الفكرة

ليست فلسطين مجرد أرضٍ تُحتل، بل المكان الذي تُختبر فيه الأخلاق البشرية.

هي جرحٌ مفتوح على جسد الزمن،

وذاكرةٌ لا تنام لأن التاريخ لم يقل كلمته بعد.

كلّ حجرٍ في القدس يشهد على خيانةٍ ما،

وكلّ زيتونةٍ في الجليل تحمل دمًا من قرنٍ مضى.

النكبة لم تكن حدثًا عابرًا، بل حالةً مستمرة من الطرد والإنكار والمحو،

كأنّ العالم قرر أن يطرد الفلسطيني من الأرض والتاريخ في آنٍ واحد.

لكن ما لم يفهمه الاحتلال ولا العالم بعد،

أنّ الفلسطيني، حين يُقتلع، يزرع نفسه من جديد في الذاكرة الإنسانية.

غزة... المدينة التي تعيش بين الجمر والنجوم

غزة ليست مدينةً فقط، بل تجربة إنسانية خارقة.

هي الجسد الذي يحترق ليضيء للآخرين طريق الحقيقة.

فيها، تُقصف المستشفيات، ويُحاصر الخبز، وتُغتال الأحلام،

لكن تبقى الأرواح مشرعة للسماء، كأنها تصلي للعالم كي يستيقظ.

حين تغيب الكهرباء، يشعلون الحكاية.

وحين يُغلق البحر، يفتحون السماء.

وحين يسقطون، ينهضون ومعهم فكرة الحياة نفسها.

“في غزة لا يُهزم الناس، لأنهم ببساطة لا يعرفون شكل الهزيمة.”

الضفة الغربية... وطنٌ على طرف السكين

في الضفة، الزمن بطيء كجنازةٍ دائمة.

كل شارعٍ يُحاصر، وكل مدينةٍ تُقتحم،

لكنّ الروح لا تُحتلّ.

في الخليل، يمشي الفلسطيني بين الجنود كما يمشي التاريخ بين الحاضر والمستقبل.

في جنين، تُزهر البنادق من تحت الركام.

في رام الله، يكتب الشعراء عن وطنٍ يرفض أن يموت في اللغة.

كلّ طفلٍ يحمل حجرًا هناك لا يقاتل من أجل أرضٍ فقط،

بل من أجل كرامة العالم التي تُهان كل يوم أمام الكاميرات.

العالم... حين صارت الإنسانية ترفًا

العالم يرى كل شيء، لكنه يختار العمى.

يتحدث عن “القانون الدولي”، بينما يتفرج على دفن الناس أحياء.

يخطب عن “حقوق الإنسان”، بينما يساوم على الدم الفلسطيني.

أية حقوقٍ هذه التي تُمنح للبعض بالوراثة،

ويُحرم منها شعبٌ كامل لأنه لا يملك لوبيًا في العواصم الكبرى؟

الغرب الذي بكى على كاتدرائيةٍ احترقت،

لم ترفّ له عينٌ وهو يرى غزة تُحرق بمن فيها.

العالم الذي أدان الصمت في أوكرانيا،

يبرّره في فلسطين باسم “التوازن”.

“الحياد في وجه الجريمة ليس عدالة...

بل مشاركة خفية في الجريمة.”

العرب... مرثية الصمت الطويل

أما العرب، فقصتهم مع فلسطين قصة الخذلان المتكرر.

من زمن الشعارات إلى زمن الصفقات،

تحوّل الموقف من الواجب إلى العبء، ومن النصرة إلى التبرير.

لكنّ فلسطين لا تنتظر الجيوش،

ولا تستنجد بالعواصم التي باعت ذاكرتها السياسية.

إنها تعرف أن الصوت الصادق أقوى من ألف دبابةٍ صامتة.

وما دامت هناك أمّ فلسطينية تقول لابنها قبل أن يخرج: “ارجع بشرفك، أو لا ترجع”،

فالأمة لم تمت بعد — وإن كانت تنام في غيبوبة طويلة.

الفلسطيني... الإنسان الأخير في معجم الكرامة

أن تكون فلسطينيًا يعني أن تكون آخر من يدافع عن معنى الإنسان.

أن تبتسم وأنت تعرف أن العالم ضدك.

أن تحب الحياة رغم أن كل شيءٍ من حولك يدعوك إلى الموت.

أن تبني بيتك للمرة الخامسة، لأنك تعرف أن الهدم لا ينتصر على الإرادة.

الفلسطيني ليس بطلًا أسطوريًا ولا ضحيةً أبدية،

إنه شاهد الحقيقة الأخير في عالمٍ غارقٍ في الزيف.

لقد حوّل الألم إلى طاقةٍ معرفية،

وحوّل الصبر إلى فلسفةٍ أخلاقية،

وحوّل الذاكرة إلى وطنٍ لا يمكن قصفه.

فلسطين... ليست وطنًا بل ضمير العالم

فلسطين هي آخر البوصلة.

هي النقطة التي يبدأ منها الوعي وينتهي إليها الضمير.

هي الامتحان الذي يرسب فيه من يتكلم كثيرًا عن الأخلاق ويمارس عكسها.

إنها المرآة التي يرى فيها العالم وجهه الحقيقي،

والوجه الذي لا يستطيع أن يحدّق فيه طويلًا لأنه يذكّره بخيانته.

الخاتمة: فلسطين لا تنتظر من ينقذها... بل من يفهمها

حين يُكتب التاريخ بعد قرن،

لن يُذكر أسماء الرؤساء ولا بيانات الإدانات،

بل سيُذكر أن هناك شعبًا اسمه الشعب الفلسطيني

واجه العالم وحده، وانتصر — لا بالسلاح، بل بالمعنى.

سيُقال إنهم كانوا يُقصفون بالنهار ويزرعون بالليل،

إنهم كانوا يُهدمون في المساء ويُغنون في الصباح.

وسيُقال إنهم أعادوا تعريف الإنسان،

لأنهم لم يخسروا أنفسهم حتى حين خسروا كل شيء.

“فلسطين ليست فقط أرضًا،

إنها اسم الإنسان حين يرفض أن يموت داخله الإنس

كاتبة اعلامية وموجهة مجموعات