٢٩/١٠/٢٠٢٥
كتب الدكتور ميخائيل عوض
١
في أخطرِ اختبارٍ لوقفِ حربِ غزّةَ، تثبتُ أنّ ترمب أخضعَ إسرائيلَ ونتنياهو، فقرارُهُ هو النافذ، ولم يَعُدْ لنتنياهو حريّةٌ أو هامشُ حركةٍ.
هذا تطوّرٌ فَرْطُ استراتيجيٍّ يُغيّرُ في أحوالِ ومستقبلِ العربِ والإقليم.
فقد أُخضِعَتْ إسرائيلُ، وعادت إلى حجمِها ووظيفتِها كدولةٍ مُصَنَّعةٍ، قاعدةٍ لتنفيذِ وتحقيقِ مصالحِ المصنعينَ والداعمين.
تبدّدت أوهامُ نتنياهو، وسقطَ رهانُهُ على أنْ يتشكّلَ قوّةً قابضةً على الإقليمِ بشرقِه الأوسط الجديد، لتصيرَ "إسرائيلُه" اليهوديّةُ والكُبرى دولةً قائدةً قاعدةً لحكومةِ الشركاتِ الخفيّة، أي لوبي العولمةِ المتصادمِ مع ترمب ولوبي الأمركة.
٢
بإخضاعِه نتنياهو وإسرائيلَ، بفعلِ صمودِ غزّةَ الأسطوريّ، وانكشافِ وسقوطِ سرديّةِ إسرائيلَ، وإنهاضِ الأمميّةِ العالميّةِ المناضلةِ، وبسببِ التحوّلاتِ النوعيّةِ والتاريخيّةِ في أمريكا ورأيها العامّ الذي أطلقتهُ غزّةُ مع ثورةِ الشبابِ والطلابِ من جامعاتِ النخبة، وما تُؤكّده الاستطلاعاتُ بأنّ ٨٠٪ من الديمقراطيين ضدّ إسرائيل ومع عودةِ فلسطينَ لأهلِها، و٥٦٪ من الجمهوريين، أصبح التعارضُ بين الترامبيّةِ وإسرائيلِ نتنياهو قضيّةً مصيريّةً لترمب ومشروعاتِه ومستقبلِه في إعادةِ هيكلةِ أمريكا نفسها ومكانتها في العالم.
فالانتخاباتُ النصفيةُ حاسمةٌ ويقتربُ موعدُها، وللرأي العامِّ وتحولاتِه دورٌ في تقريرِ مستقبلِ الترامبيّة، وأقربُ الأمثلةِ ممداني وانتخابُ عمدةِ نيويورك.
فليس لدى ترمب زمنٌ للمناورةِ بعد.
التعاملُ مع الجديدِ بعقولٍ متخشّبةٍ وفهمِهِ من أفكارِ الصندوقِ العتيقِ مقتَلُة لأصحابِه وتضليلٌ وتهويلٌ لا أثرَ له.
٣
ترمب تاجرُ صفقاتٍ محاربٌ، ويعرفُ من أينَ تُؤكلُ الكتفُ، فقد غيّر بأدواتِه، وبات يتحالفُ مع أردوغان وقطر والإخوان وجماعاتِ الإسلامِ السياسيّ والعسكريّ الممولةِ من قطر والمقادةِ من أردوغان كأحدِ أهمِّ أدواتِ المشروعاتِ الترامبيّةِ للعربِ والمسلمين.
ترمب يُصيغُ سياساتٍ خارجيّةً لأمريكا لا تنتمي للسوابقِ بتقاليدِها، فجلّ سفرائهِ ومبعوثيهِ هم من شركائهِ وأركانهِ، وجلّهم من تجّارِ الصفقاتِ، ويُشكّلون كممثلينَ شخصيينَ له.
غَيَّبَ وزارةَ الخارجيّةِ وأركانَها وقيمَها وتقاليدَها، كما أنهى مجلسَ الأمنِ القوميَّ وأعادهُ دائرةً في وزارةِ الخارجيّة، وصفّى نفوذَ البنتاغون وضبّاطَهُ الكبار، وأقالَ رجالَ لوبي صناعةِ الحروبِ والسلاحِ من أدواتِ لوبي العولمةِ في البنتاغون والبيتِ الأبيض.
٤
بنفسِه ولسانهِ أعلن أنّه ألزَمَ نتنياهو بوقفِ حربِ غزّةَ، لأنّ أمريكا لن تُحاربَ مع نتنياهو العالمَ كلَّه.
وسبق أن أعلن أنّه أنقذَ إسرائيلَ من أن تُدمّرَها إيران، وخطبَ في الكنيست وشرم الشيخ ليُؤكّدَ موقفَهُ بحزمٍ، وليُحاولَ حمايةَ نتنياهو في إسرائيل، وأعلنَ نفسَهُ قائدَ هيئةِ السلامِ في غزّة، وأطلقَ أوهامَهُ بنهايةِ الحروبِ والشروعِ بتعميمِ السلامِ في المنطقة.
٥
إذًا، الوقائعُ لا تقبلُ كثيرًا من التشكيك، والاستمرارُ بالتفكيرِ بقواعدِ تفكيرٍ ماضويّةٍ عتيقةٍ جاوزَتها الأزمنةُ.
المعطياتُ تُجزِمُ بانهيارِ مشروعِ إسرائيلَ الكبرى، والمعطياتُ تُرجّحُ عجزَ نتنياهو وفريقِه عن إعلانِ إسرائيلَ اليهوديّةِ وتصفيةِ الوجودِ والقضيّةِ الفلسطينيّة.
على العكسِ، قد تستعجلُ انفجارَ إسرائيلَ وأزماتِها وتصاعدَ توتّراتِها، ما يستعجلُ رحيلَها أو على الأقلّ تحوّلَها إلى عبءٍ كبيرٍ وخطيرٍ على أصحابِها.
إخضاعُ نتنياهو قد يُحوّلُهُ إلى الهراوةِ التي يستخدمُها ترمب لإعادةِ هيكلةِ العربِ والإقليم، وخطّتُهُ في جوهرِها التملّكُ العقاريُّ بتدميرِ القائمِ وتهجيرِ أصحابِ الأرضِ، وإشغالِهم بصراعاتٍ ثانويّةٍ، والسعيِ لمجرّدِ تأمينِ العيشِ كقطيعٍ يعملُ عند الأسيادِ ومستهلكينَ لمنتجاتِهم وتعظيمِ أرباحِهم.
فمؤشراتُ الخططِ تبدّت في غزّةَ "ريفيرا الشرق"، وعندما أفشلتها غزّةُ تحوّلت إلى نصفِ "ريفيرا".
وكذا يُعدّ للبنان جبلاً وساحلًا ومرافئَ مشاريعَ عقاريّةٍ، وإطباقًا على مصبّاتِ النفطِ والمرافئِ التاريخيّةِ ذاتِ الأهميّةِ الاستثنائيّة، وتاليًا العملُ لتنفيذِ مشروعِ "جغرافيا وسكانٍ بلا دولٍ ولا جيوشٍ ولا حكوماتٍ"، إنما سلطاتٌ هامشيّةٌ تُنفّذُ الأوامرَ وتوقّعُ العقودَ وتُديرُ القطعانَ.
الاختبارُ الأهمُّ سيكونُ في لبنان، وتتوافقُ عليه أدواتُ أمريكا، فإسرائيلُ نتنياهو تُريدهُ هكذا أداةً تنفيذيّةً في تطبيشِ الدولةِ وإنهاءِ تشكيلاتِها لإنتاجِ سلطاتٍ هامشيّةٍ كمثلِ سوريةَ والسلطةِ الفلسطينيّة.
وتركيا وقطر والإخوان جادّونَ وجاهزونَ وينفّذون، وأمّا العراقُ فقدْ أتى دورُهُ، وقد أعلنَ ترمب صريحًا أنّه يعومُ على بحيراتِ نفطٍ وغازٍ ولا يعرفُ استثمارَهُ، ولهذا انتدبَ له ممثلًا شخصيًّا سفيرًا من عالمِ تجارةِ القنّبِ الهنديّ.
٦
هذهِ وقائعُ ومعطياتٌ وسياساتٌ جاريةٌ، فهلْ تَخفى عن رؤيةٍ وعقلِ أحدٍ؟
إلّا الذينَ ابتلاهمُ اللهُ بعمى البصيرةِ والبصرِ، وبتخشّبِ العقولِ!
٧
الزمنُ وحاجاتُهُ والجغرافيا وطبائعُها، وما بلغتهُ البشريّةُ من عَصْرَنَةٍ في وسائطِ تفاعلِها، واستنفادِ العالمِ الأنغلوسكسونيِّ بأرقى وأسوأِ نواتجِه بسيادةِ أمريكا وليبراليّتها المتوحّشة، والحاجاتِ الماسّةِ للعبورِ إلى العصرِ الإنسانيِّ الحضاريِّ الثالث، تفرضُ مشيئتَها وحقائقَها وحاجاتِها.
فلن يكونَ الزمنُ مرّةً ثانيةً طوعَ الحاكمِ في البيتِ الأبيض، فقد وَلدَتْ حربُ غزّةَ، والاعتداءُ على قطر، تحالفًا سعوديًّا باكستانيًّا يحتضنُ إيرانَ ويمدُّ يدَهُ لمصر، وتسيرُ العلاقاتُ على إيجابيّاتٍ بدوافعِ الحاجاتِ والضروراتِ والمصالحِ، وفي مقدّمتِها الحفاظُ على الوجودِ، وكلُّ ذلك مدفوعٌ بمصالحِ روسيا والصين، ولا يتعارضُ مع الهند، وهي القوى التاريخيّةُ الصاعدة.
الحربُ وغزّةُ وَلدَتْ معطياتٍ وحقائقَ جديدةً مؤسِّسةً، لن يُفهَمَ الجاري وما سيكونُ إلّا بمعرفتِها والتثبّتِ من مساراتِها ونواتجِها.
العالمُ يتغيّرُ، والإقليمُ تتبدّلُ قواهُ وتوازناتُهُ، فالحربُ هي القابلةُ القانونيّةُ لتوليدِ الجديدِ من رحمِ القديمِ.
تحوّطًا، يبقى السؤالُ:
هل يتمرّدُ نتنياهو بأمرٍ وإسنادٍ من لوبي العولمة؟
وما مستقبلُهُ وإسرائيلُ وترمبُ ومشروعاتُهُ إنْ فعلَها؟
سنعالجُها.
للاشتراك بقناة Z لبكرة شو؟ على الرابط
https://youtube.com/channel/UCF1cJ18MEv87XTvTelwEtEg?si=i16wGZbKAESnP6VE