تمكن فريق دولي من العلماء، بمشاركة باحثين من المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو (НИУ ВШЭ)، من اكتشاف آلية دفاع خلوية قديمة تعمل على تدمير الخلايا المصابة بالفيروسات ذاتيا.
هذا الاكتشاف، الذي نُشر مؤخرا في مجلة Nature، يغيّر الفهم التقليدي لكيفية استجابة الخلايا للعدوى الفيروسية.
فقد كان يُعتقد سابقا أن الخلايا تطلق عملية “الانتحار الذاتي” فقط استجابةً لاكتشاف الفيروس داخلها، أما الدراسة الجديدة فتكشف أن الفيروس نفسه يثير سلسلة من الأعطال في العمليات الخلوية تؤدي إلى تفعيل برنامج التدمير الذاتي تلقائيا.
كيف يخدع الفيروس الخلية ويدفعها إلى الانتحار
قام الباحثون بإصابة خلايا بفيروسات الهربس والإنفلونزا، مستخدمين تقنية متقدمة تُعرف باسم RIP-sequencing، وهي أداة تحليلية تتيح تتبع تفاعل جزيئات RNA مع البروتينات داخل الخلية.
أظهرت النتائج أن الفيروسات تعطل عملية أساسية في الخلية تُعرف بإنهاء النسخ الجيني (transcription termination) — أي المرحلة التي يجب أن يتوقف فيها نسخ المعلومات من DNA إلى RNA في الوقت المناسب.
لكن عند حدوث هذا الخلل، تواصل الخلية نسخ المعلومات بلا توقف، مما يؤدي إلى تكوّن جزيئات RNA غير طبيعية وطويلة جدا تحتوي على أجزاء من تسلسلات فيروسية قديمة مدفونة في الجينوم البشري منذ ملايين السنين.
عندما تصبح الجينات القديمة سلاحا دفاعيا
تتحول هذه التسلسلات القديمة إلى تراكيب فريدة تُعرف باسم Z-RNA، وهي شكل غير معتاد من الحلزون المزدوج يلتف في الاتجاه المعاكس للحلزون الطبيعي.
بمجرد أن تتشكل هذه الجزيئات داخل الخلية، يقوم بروتين حارس يُسمى ZBP1 بالتعرف عليها باعتبارها إشارة خطر فورية.
حينها يبدأ ZBP1 بتنشيط برنامج الموت الخلوي المنظم — سواء الاستماتة (apoptosis) أو النيكروبوتوز (necroptosis) — مما يؤدي إلى موت الخلية المصابة قبل أن يتمكن الفيروس من استخدامها للتكاثر.
تصريح الباحثين: الفيروس ينفجر بنفسه
توضح الدكتورة ماريا بوبتسوفا، رئيسة المختبر الدولي لعلم المعلومات الحيوية في НИУ ВШЭ، أن الفيروسات في الواقع تفعّل بنفسها آلية تدميرها الذاتي، مشبهة الأمر بـ"عميل سري يخطئ ويطأ على لغم".
وتقول بوبتسوفا:
“الخلية تموت، لكن معها يموت الفيروس أيضا، مما يوقف العدوى قبل انتشارها”
وتضيف أن هذه الآلية التطورية القديمة ربما لا تزال فعالة ضد طيف واسع من الفيروسات التي تُحدث اضطرابات في عملية النسخ الجيني.
نحو علاجات جديدة تعتمد على الانتحار الخلوي
المثير أن الباحثين تمكنوا من محاكاة هذا التأثير بشكل مصطنع باستخدام عقار تجريبي يُدعى JTE-607، والذي أحدث نفس الخلل في النسخ داخل الخلايا.
هذه النتائج تفتح الطريق أمام استراتيجيات علاجية مبتكرة، منها:
تحفيز موت الخلايا السرطانية بطريقة موجهة
تعزيز الاستجابة المناعية ضد العدوى الفيروسية المزمنة
ويأمل العلماء أن يسهم هذا الفهم الجديد في تطوير أدوية قادرة على تفعيل آليات الدفاع الخلوي الذاتية دون الإضرار بالخلايا السليمة.