استولى الفرنج على المدينة المقدسة يوم الجمعة في ٢٢ من شهر. شعبان من عام ٤٩٢ الهجري ( ١٥ تموز/يوليو ١٠٩٩م) بعد حصار دام اربعين يوما.بعد ايام على النكبة وصل اول اللاجئين من فلسطين الى دمشق حاملين بعناية فائقة المصحف العثماني،احد اقدم نسخ الكتاب المبين.استقبل ابو سعد الهروي بوصفه. قاضي قضاة دمشق اللاجئين بحفاوة بالغة.وكان هذا القاضي،وهو من اصل افغاني،اكثر شخصيات المدينة تمتعا بالاجلال والاحترام؛ وقد بذل للفلسطينيين النصح والعزاء.واذا كان قد سافر من دمشق الى بغداد ومعه اللاجئين الفلسطينيين طوال ثلاثة اسابيع من ايام الصيف المحرقة فما كان ذلك لاستدرار الشفقة وانما لاخطار ارفع السلطات الاسلامية بالمصيبة التي حاقت بالمؤمنين والطلب اليها ان تتدخل بلا ابطاء لوقف المجزرة.دخل القاضي ابو سعد الهروي ديوان الخليفة المستظهر بالله الفسيح صائحا حاسرا حليق الرأس علامة على الحداد وتقدم بعزم وتصميم. الى وسط القاعة. فيأخذ في تبكيت الحاضرين من غير اكتراث مناصبهم. بكلام لاذع. كالذي يستخدمه الواعظ على المنبر
- أتجرؤون على التهويم في ظل امن رغد وعيش ناعم. شأن زهرة في خميلة واخوانكم في الشام لا مأوى لهم سوى ظهور الجمال وبطون النسور. والعقبان؟كم من دماء سفكت!وكم من نساء اخفين وجوههن بأيديهن حياء وخجلا ! أيرضى العرب البواسل بالمهانة ويقبل الأعاجم الشجعان بالذل؟! ويقول الأخباريون العرب: (( وكان خطابا أبكى العيون وحرك القلوب)).وأنتاب الحضور جميعا نشيج ونحيب،ولكن الهروي لا يريد شيئا من دموعهم فيقول لهم:
- ان اسوأ ما يلجأ اليه المرء من سلاح. أن يسكب الدمع بينما تذكي السيوف نار الحرب.
وقليلون هم العرب الذين سبروا على الفور في ابتداء الغزو. هول الخطر الوافد من الغرب كما سبره الهروي.بل سرعان ما تكيف بعض الناس مع الوضع الجديد،ولم يكن هم السواد الاعظم سوى البقاء على قيد الحياة مستسلمين لقدرهم وأن على مضض واتخذ بعضهم موقف المراقب الواعي محاولين فهم الاحداث التي كانت غير متوقعة. بقدر ما كانت جديدة.
في العقد الاخير من القرن الحادي عشر كان ابو حامد الغزالي نفسه قد اقام في القدس فانه لم يشر الى ضياع المدينة في كتاباته اللاحقة.ومرد ذلك اولا ان القدس كانت تقلبت عليها الايدي في الحقبة المعنية.فمن أيدي الفاطميين انتقلت الى السيطرة السلجوقية قبل ان تعود في عام ١٠٩٨،قبل سقوطها بسنة الى ايدي حكامها الاصليين.ومن ثم فقد بدا ان هيمنة الفرنج عليها لن تطول اكثر مما طالت هيمنة الاخرين.اضف الى ذلك ان الشرق الاوسط الاسلامي تأخر كثيرا في فهم الهدف النوعي للحملات الصليبية لاعادة السيادة المسيحية على الارض المقدسة وبيت المقدس.ولوهلة اولى لم يميز المسلمون الحملة الصليبية الاولى من محاولات بيزنطة المتكررة لاستعادة بعض مواقعها في دار الاسلام
ولم تمض سنوات معدودة حتى كان الهدف الاستراتيجي للصليبيين قد اتضح،ولا سيما بعد ان حولت مساجد المدينة الى كنائس ومنع غير المسيحيين من الاقامة فيها وتم اعلان القدس عاصمة لدولة جديدة هي (( مملكة اورشليم اللاتينية)).ومع ذلك فان شيئا من هذا لم يصدم المسلمين المعاصرين ولم يحرك فيهم ساكنا ولا احدث حالة من التعبئة المضادة.-تماما كموقف العرب والمسلمين من تحويل القدس عاصمة ابدية لاسرائيل في ايامنا هذه -.وحتى الفقهاء وعلماء الدين الذين راحوا من مواقعهم في المساجد والمدارس يطالبون بالجهاد ضد الفرنجة الكفار،فانهم ما خصوا القدس بذكر خاص ولا نوهوا بطابعها المقدس.وفي تفسير هذه اللامبالاة هي ان الطبيعة اللاهوتية ( والتاريخية ) للاسلام كدين منزل هي التي حالت دون تقديس القدس،وهذا على الاقل منذ ان قرر الرسول ،بعد الهجرة الى المدينة،تحويل قبلة المسلمين الى الكعبة. ولئن تكن اية الاسراء قد تحدثت عن (( المسجد الاقصى))،فقد وجد بين المفسرين القدامى من يرفض المماهاة بينه وبين القدس وهيكلها ( فلم يكن ثمة مسجد يحمل هذا الاسم في القدس عصرئذ)،ويجعل موقعه بالتالي في السماء.والفاتحون المسلمون الاولون قد سموا القدس(( ايليا)) نسبة الى اسمها الروماني وفي العهدة العمرية التي هي كتاب كتبه الخليفة عمر بن الخطاب لاهل ((ايلياء))عندما فتحها المسلمين عام ٦٣٨ للميلاد،ولم يجعلوها عاصمة لفلسطين،بل قدموا عليها قيسارية ثم الرملة.وانما بعد خمسين سنة من الفتح،ظهر في سورية فجأة الاسمان اللذان يحملان وقعا دينيا:((القدس))و((بيت المقدس )).وابتداء من ذلك العهد ايضا،بدات المصادر الاسلامية تتحدث عن الحج الى القدس كعادة درجت لدى المتصوفة والزهاد.ويعود منشأ هذه العادة الى معتنقي الاسلام الجددمن اليهود والى حركة التنسك النصراني.واخيرا على الاخص،الى الغنم السياسي الذي تنبه له الامويون الى امكان اجتنائه من وراء فكرة قداسة القدس.وانما من منظور ايجاد مركز بديل او رديف للحج رمم عبد الملك بن مروان كنيسة بيزنطة وحولها الى مسجد باسم (( المسجد الاقصى )) وبنى كذلك في الوقت نفسه مسجد قبة الصخرة الذي يعد من ايات العمارة الاسلامية.
ولكن مع سقوط الامويين ونقل عاصمة الخلافة الى بغداد،راح العلماء والفقهاء القيمون على العقيدة القويمة يغربلون وينتقدون الاراء والمعتقدات التي كانت شاعت في عهد الامويين.وقد مالوا الى اعتبار تقديس القدس بدعة.ونشأ من جراء ذلك نوع من الصراع بين الاسلام العالم والاسلام الشعبي،بين اسلام الفقهاء واسلام المتصوفة كما بين اسلام الشام واسلام العراق.وانتصار اسلام الفقهاء في ظل الخلفاء العباسيين هو ما يفسر جزئيا اللامبالاة التي قوبل بها سقوط القدس في ايدي الصليبيين عام ١٠٩٩م.
السلاطين الزنكيون ثم الايوبيون هم الذين تصدوا لمواجهة الحروب الصليبية وهم الذين سيجعلون للقدس تلك المكانة الرمزية التي ستصير لها في الوعي الاسلامي ابتداء من القرن الثاني عشر.فتقديس القدس املته ضرورة سياسية وتعبوية.
* كذلك تحرير القدس كان امسى منذ حرب حزيران ١٩٦٧ الشعار التعبوي الاول في العالم العربي.وابتداء من ثمانينيات القرن الماضي،نجحت الحركة الاصولية الاسلاموية،ولا سيما الشيعية في مصادرته لحسابها حين افتى الخميني واعتمد يوم الجمعة الاخيرة من شهر رمضان يوما عالميا للقدس.ومنذ ذلك الحين تحولت المعركة الوطنية مع المحتل الاسرائيلي الى حرب دينية بكائية،تركز البكاء فيها على مدينة القدس وحدها دون سائر الاراضي والمدن العربية المحتلة.والان ما زالت القدس والاقصى وحدهما حاضران بقوة باعلان كتائب القسام هجومها المباغت على غلاف غزة المحتل يحمل الاسم الرمزي (( طوفان الاقصى ))هذه العملية العسكرية التي استمرت سنتين سقط فيها اكثر من سبعين الف شهيد ومائة وسبعين الف جريح عدا المفقودين تحت الركام لم يتداعى لها العرب لا رسميا ولا شعبيا الا الحركات الاسلاموية .فجاء الموقف العربي والاسلامي مطابقا لموقف الخليفة المستظهر بالله.اما لماذا تداعت سائر الشعوب الاوروبية والامريكية وبعض الشعوب الاسيوية والشعب الاسترالي لتصديق الرواية الفلسطينية وتكذيب الرواية الصهيونية فمرد ذلك الى النظم الديموقراطية العلمانية ذات الحداثة الاصيلة ومنظمات المجتمع السياسية والمدنية
ولنا وقفة مع العلمانية والديموقراطية وقبول الاخر الاثني والديني.
مهندس زياد ابو الرجا