حجر الفلاسفة. المفقود
مقالات
حجر الفلاسفة. المفقود
م. زياد أبو الرجا
26 تشرين الثاني 2025 , 19:33 م


* في بداية القرن العشرين كان المشهد السياسي في الشرق الاوسط مختلفا عما هو عليه اليوم،فلم تكن هناك اسرائيل والاردن وسورية والعراق والسعودية موجودة انذاك،وكانت معظم اراضي الشرق الاوسط لا تزال تغفو تحت ارجوحة الامبراطورية العثمانية الكسولة والمهملة.ونسبيا كان الشرق الاوسط منطقة هادئة يتحرك فيها التاريخ،كاي شيء اخر ببطء شديد،لقد رأى الغرب ان مهمته التاريخية هي صياغة المصير السياسي لشعوب الارض الاخرى،وذلك انهم انجزوا معظمها في ذلك الوقت،وبرز الشرق الاوسط كاحدى مناطق العالم التي لا تزال تنتظر دورها،انه احد الاقاليم القليلة المتبقية في العالم التي لم تكن بعد اعيدت صياغتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا بالصورة الاوروبية.لا شك بان الشرق الاوسط كان ذو اهمية عظمى بالنسبة للدبلوماسيين والسياسيين الغربيين خلال القرن التاسع عشر وذلك بوصفه مضمار منافسات اللعبة الكبرى،الا انه خلال السنوات الاولى للقرن العشرين كان مجرد اهتمام هامشي بالنسبة لهؤلاء،وذلك عندما بدا ظاهريا ان تلك المناقشات قد انتهت.بعد ان بلغت المنطقة حالة من الركود ظل الرأي السائد يقول : بان القوى الاوروبية ستحكم قبضتها عليها يوما ما،لكن لم يعد هناك حسا بالالحاح للقيام بذلك.لكن تداعي الامبراطورية العثمانية((الرجل المريض )) وضعها على مشرحة القوى الاوروبية (بريطانيا-فرنسا-روسيا ) فكانت اتفاقية (سايكس-بيكو- سازانوف ) ووعد بلفور .تم رسم حدود الدول بالدماء،ووجدت شعوب المنطقة نفسها على حد قول المثل الشعبي (( من تحت الدلف الى تحت المزراب))،فخرجت من تحت سلطة الحكم العثماني الجامعة الى هيمنة الانتداب الاستعماري الاوروبي المفتتة والمجزئة.بالاضافة الى مشروع خلق الكيان الصهيوني الاستيطاني على ارض فلسطين. لقد اصطدمت شعوب المنطقة بالمشروع الصهيوني بعد ان عرفت بوعد بلفور ودور بريطانيا في رعايته وتنفيذه.هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني لا يشبه اي استعمار عرفه العرب.فقد كان عليه ان يجند موارد القوة لديه كافة ويستحصل على اخرى من غيره لتحقيق اهدافه.ولم يكن ذلك في حكم المعلوم من العرب لحداثة عهدهم بالتنظيم الحديث وضعف معلوماتهم عن قدرات العدو.وعندما فشلت كل الثورات والانتفاضات الفلسطينية،واقام الكيان دولته على ارض فلسطين،وعندما خسر العرب حرب استرجاع فلسطين لانهم دخلوها مجردين من اسباب القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية،في مقابل عدو متسربل بها..خسروها لانهم لم يكونوا يعرفون كيف يخاطبون العالم باللغة التي يفهمها.

بينما كان وزير الخارجية المعين موشي شاريت خارج البلاد خلال الاشهر التي سبقت اعلان الدولة كان دائما يتلقى رسائل من بن غوريون يرشده فيها الى احسن السبل التي عليه اتباعها من اجل حشد دعم عالمي ويهودي للدولة المستقبلية والمخاطر التي تحيط بها وتهددها بالتصفية.وفي نفس الوقت يبقي على اطلاعه على الحقائق الفعليةعلى الارض.في ١٨ شباط/فبراير ١٩٤٨ كتب موشي شاريت لبن غوريون: هل سيكون لدينا القوات اللازمة لحماية انفسنا وليس السيطرة على البلاد؟.كتب اليه بن غوريون: اذا استلمنا في الوقت المحدد الاسلحة التي اشتريناهاوتلك الاسلحة التي وعدتنا بها هيىة الامم سنكون قادرين ليس على الدفاع عن انفسنا ولكن لنلحق ضربات مميتة بالسوريين حتى في بلادهم ونستولي على فلسطين بكاملها،وانا لا اشك اطلاقا في هذا.نحن قادرون على مواجهة القوات العربية.وهذا ليس اعتقادا وجدانيا ولكن بارادة ومنطقية قائمة على اختبار عملي.

* شهدت خمسينيات وستينيات القرن العشرين انقلابات عسكرية اطاحت بنظم ملكية،كان خطابها الموجه الى الشعوب هو التخلص من انظمة التبعية التي ضيعت فلسطين،والاستعداد لتحريرها.واقدمت على اتخاذ خطوات كانت تحديا صارخا للامبراطورية البريطانية والفرنسية والكيان الصهيوني اسرائيل.فكان تاميم قناة السويس وتاميم شركات النفط في العراق واستقلال الجزائر من نير الاستعمار الفرنسي.ووقع العدوان الثلاثي على مصر الذي احتلت فيه القوات الاسرائيلية قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وعل بعد ١٨ كيلو مترا من قناة السويس.قامت الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي بارغام قوى العدوان الثلاثي على التراجع والانسحاب كل من منظور مصالحه في الاقليم.دخلت المنطقة العربية في حمأة الصراع على السلطة والتحالفات مع القوى الاوروبيةالاستعمارية والولايات المتحدة الامريكية والمعسكر الاشتراكي وعلى راسه الاتحاد السوفياتي.

توجت تلك المرحلة الرئيس المصري جمال عبد الناصر بطلا قوميا وعلى اثر ذلك اخذ يدير الصراع مع الكيان الصهيوني وخصومه العرب بسياسة حافة الهاوية.وصارت قاعدة من قواعد السياسة المصرية.لكنه اغفل عاملا مهما وهو ان قواه الذاتية العسكرية والاقتصادية والعلمية وتحالفاته ليست على مستوى ادارة صراع مع قاعدة متقدمة للاستعمار العالمي( اسرائيل ).فحينما حاول تطبيق هذه السياسة في عامي ١٩٦٦ و١٩٦٧ في هذه الفترة لم يكن داغ همرشولد امينا عاما للامم المتحدة بل كان يو ثانت الذي قرر سحب قوات هيىة الامم المتحدة ووضعت الرئيس المصري امام الانزلاق والوقوع في الهاوية.وهذا ما حصل في حرب حزيران/يونيو ١٩٦٧.فاحتلت اسرائيل قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء حتى الضفة الشرقية لقناة السويس،والضفة الغربية لنهر الاردن والجولان السوري.

رفعت هزيمة العرب الغطاء عن التخلف الثقافي والسياسي والاقتصادي والمعرفي والعلمي لشعوب المنطقة.وكم هي غارقة في الاساطير وراحت، تبحث في كتابها المقدس عن جواب لاسباب هزيمتها فوجدته في الاية التي تقول(( وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة )) . فاراح عقلها المستقيل عن التفكير واوكلته الى النظم الحاكمة التي هي نتاج العقل المستقيل منذ قرون.خرج علينا الاعلام العربي المازوم والمهزوم بمقولة :ان الاسرائيلي وان احتل الارض الا انه فشل في تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في اسقاط الانظمة العربيةالتقدمية والوحدوية.هناك من سوق وباع هذا الوهم ،والانكى من ذلك من اشترى وملأ جعبته وفاض.وازاء ما حل بنا من هزيمة مدوية بدأنا البحث والتقصي عن مشجب خارجي نعلق عليه اسباب مأزقنا وهزيمتنا..

* في سبعينيات القرن العشرين شهد العالم ثورة الاصوليات الدينية على العالم العلماني،ووضعت الدين في ميدان المواجهة مع العلمانية.كان ابرزها المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الامريكية.وفي داخل الكيان الصهيوني دخلت الجماعات الاصولية المتطرفة دينيا ضد العلمانية الاسرائيلية ،وكان ابرزها حركة غوش ايمونيم(( كتلة الايمان ))وتطلق على نفسها (( حركة التجديد الصهيوني )) وتستمد تعاليمها من المفكر الصهيوني راف كوك،وهو رجل دين اشكنازي الاصل اسس حركة (( مركا زهراف )) عام ١٩٢٤.

اشتهر بمقولته ان دعوة اليهودية الى فلسطين الموعودة وتوطين اليهود فيها وانشاء الارض هو بداية الخلاص.وان السكان الفلسطينيين ليسوا اكثر من نزلاء غير قانونيين ويشكلون تهديدا للخلاص بالاضافة الى التأكيد على قداسة (( ارض اسرائيل ))وان الهوية القومية ليست مجرد واقع جغرافي واجتماعي وانما هي جغرافي سياسي وقد عكس الشعار الشعبي للحركة ارض اسرائيل طبقا لتوراة اسرائيل.قال الحاخام كوك احد كبار الحركة : (( نسير وفق تعاليم التوراة فقط لان التوراة ابدية،اما الحكومات فهي ظاهرة زائلة )).كما رات الحركة ان القوانين لطالما لا تتفق مع اوامر الله من الواجب عدم الانصياع لها لان الاستيطان في المناطق المحتلة هدف اسمى.لانه يجري تنفيذا لارادة الله وليس القانون الاسرائيلي.مع صعود الليكود الى السلطة وتحالفه مع الاصوليات الاشد عنصرية وتطرفا منه توارت العلمانية في اسرائيل وبقيت ممثلة في رجال فكر وغابت عن المسرح السياسي.

اما الاصوليات الاسلامية التي صعدت في تلك الفترة مدفوعة من النظام الرسمي العربي والرئيس المؤمن انور السادات لتغطي عجز وتنازل النظام العربي،لم نشهد في ادبيات هذه الاصوليات ما يمكن ان نسميه معارضة للسياسات التوسعية الاسرائيلية عدا عن تحرير ارض فلسطين اولى القبلتين وثالث الحرمين ومعراج خاتم الانبياء والمرسلين والارض التي باركها الله.وخلافا للاصولية اليهودية التي تعتمد النصوص التوراتية لم تعتمد النصوص القرأنية .باختصار لم تستخدم لا المقدس ولا المسيس ضد اسرائيل.المصيبة الكبرى انها استخدمت المقدس والمدنس والمسيس في عشريات الدم المتنقلة من مصر الى الجزائر وفي حفلات الدم على مذبح الخريف العربي الذي كان فيه اردوغان وحركة الاخوان اللاعبين الرئيسيين الذان قدما سورية على طبق من ذهب للكيان الصهيوني الغاصب.الذي بات يحتل الجنوب السوري وامتدادا الى عشرين كم جنوب دمشق واحتلال جبل الشيخ.

يبقى السؤال لماذا سيقت الشعوب الى اتون حرب الاصوليات مع الانظمة العربية ولم يتم حشدها ضد الكيان المحتل لفلسطين والارض العربية؟ لم يعد خافيا ان هذه الاصوليات نمت وترعرعت في احضان بعض انظمة التبعية وقوى الاستعمار من جهة وغياب الثقافة المبنية على العلم والمعرفة اي ثقافة تخوض معركة الحداثةوالتطور الفكري والاقتصادي والتسلح بالوعي الحداثي للصراع.معركة ثقافية عمادها :(( انه لا يجوز ان تعلو سلطة العقل اي سلطة اخرى )).والحال السائد في الموروث الثقافي الذي تحرص عليه الاصوليات والانظمة هو الفكر المعتـّم والمعمم بعمامة الدين.مما دفع الانتلجنسيا العربية الى حالة الاضراب عن التفكير خشية ملاحقة فرق التفتيش.اما الذين صمدوا فتم تكفيرهم مما دفعهم الى الهجرة طلبا للسلامة.كانت مرحلة السبعينيات وما بعدها الاشد وطاة على الانتلجنسيا العربية.فلم تشهد الساحة العربية قامات ثقافية شعراء اوادباء وقامات سياسية لها تاثيرها في محيطها وفلاسفة .واخذت الشعوب تطمئن الى كذب يريحها اكثر مما تطمئن الى صدق يقلقها ويضعها في مواجهة التحديات التي تواجهها.وصار من الصعب اقناعها بمصالحها فانقادت الى الحركات الاصولية التي برعت في الكذب والخداع وساقتها الى وهم البحث عن حجر الفلاسفة المفقود الذي يحول تخلفنا الى حداثة وتقدم وتجزئتنا وتفرقنا الى وحدة ويعيد لنا الخلافة الراشدة ويحول هزائمنا الى انتصارات وتخلفنا الاقتصادي وفقرنا الى ازدهار عمراني ورخاء.

تقول الاسطورة ان القيمين على تعليم طلابهم كيفية الحصول على حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن الى ذهب يخاطبون طلابهم في الحصة الاولى : ((يا ابنائي اذا اردتم ان تحصلوا على حجر الفلاسفة ينبغي عليكم الا تفكروا بالفيل الابيض )).وفي النهاية عندما يفشلون يقولون لمعلميهم : (( يا ليتكم لم تحذرونا من التفكير بالفيل الابيض لانه طيلة انشغالنا بالبحث عن حجر الفلاسفة كان داىم الحضور في تفكيرنا)).

الخلاصة هي كيف يمكن لشعوب بهذا الفكر المتخلف ان تجابه وتتحدى كيان لا يعرف غير الدهاء السياسي والتحالف العضوي مع قوى الاستعمار ولا يقيم وزنا للاعتبارات الانسانية والاخلاقية وامام هذا المازق ينبري الاعلام ويعيد تشغيل الاسطوانة المشروخة ان العدو فشل في حربه على غزة ولبنان لانه لم يسقط اي طرف من اطراف محور المقاومة.وكان سقوط سورية في قبضة الكيان وتطبيع العربان والانصياع لاملاءات ترامب لا تساوي شيئا امام بقاء اطراف محور المقاومة

ايها الاصوليون ايها المدعون ان حجر الفلاسفة يشكل الجوهرة الرئيسية في القلادة الصهيونية.والتحدي هو ان تنتزعوه بعد ان تدقوا عنق الصهيونية وهذا بعيد عنكم لانه ليس ضمن برامجكم وخططكم الجهنية الرامية الى تمكين الكيان ومن خلف الكيان للهيمنة على الشرق الاوسط

بئس الاصوليات

وبىس الاصوليين

مهندس زياد ابو الرجا