د . مهدي مبارك عبد الله
بين اتفاقيات ملزمة وواقع إقليمي مشتعل تل أبيب تلوح بصنبور الحياة كورقة ضغط وعمان تثبت معادلة السيادة فوق كل اعتبار
الاردن بلد يعاني من أحد أعلى مستويات الشح المائي في العالم حيث يتراجع نصيب الفرد إلى ما دون الخط الفقر المائي بكثير فيما تتزايد الضغوط الديموغرافية وتشتد آثار التغير المناخي عاما بعد عام وقد دفع هذا الوضع المملكة إلى الاعتماد على مصادر خارجية لتأمين جزء من احتياجاتها المائية الأساسية وفي مقدمتها كميات المياه التي تشتريها من إسرائيل بموجب اتفاقيات سابقة ومع تراجع الهطول المطري وتناقص إمدادات نهر اليرموك والمياه الجوفية الشمالية باتت كل قطرة ماء إضافية تمثل ضرورة لا يمكن للبلاد الاستغناء عنها في الوقت الراهن وبرغم سعي الأردن إلى التوسع في مشاريع التحلية إلا أن اكتمال هذه الجهود يحتاج إلى سنوات طويلة ما يجعل أي اضطراب خارجي في الإمدادات سبباً مباشراً لخلق أزمات داخلية تمس حياة ملايين الأردنيين بصورة مباشرة
لطالما مثّلت المياه أحد الأعمدة الحساسة في العلاقة الأردنية – الإسرائيلية ليس فقط بوصفها مورداً حيوياً نادراً بل لأنها جزء من هندسة سياسية أوسع صممت بحيث لتبقى ورقة ضغط بيد تل أبيب خصوصا وان الاتفاقيات التي حكمت تقاسم المياه بين الطرفين لم تُبنَ على أساس الندّية بقدر ما اعتمدت على موازين قوة مختلّة تميل لصالح إسرائيل ما جعل قدرة عمّان على المناورة محدودة ومرتبطة بحسن نوايا الطرف الآخر وهذا الخلل البنيوي هو ما يسمح لنتنياهو اليوم بتحويل بند تزويد الأردن بحصته المائية من التزام قانوني إلى أداة تحريك وإخضاع يتم تشغيلها وإيقافها وفق المزاج السياسي أو الحاجة إلى تسجيل نقاط في ملفات أخرى
في ذات السياق بدأت حكومة بنيامين نتنياهو تستغل حاجة الأردن المائية لتفرض واقعاً سياسياً مقلقاً عنوانه الابتزاز والضغط فإسرائيل التي سبق أن التزمت في معاهدة وادي عربة بضخ ما يقارب خمسين مليون متر مكعب سنوياً للأردن باتت اليوم تلوّح بالتراجع عن هذه الالتزامات وقد نقلت قنوات دبلوماسية أوروبية أن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أبلغ الوسطاء بأن الحكومة لا تنوي ضخ الكمية المتفق عليها للموسم الجديد متذرعة بمشكلات فنية تتعلق بالتحلية والكلفة في حين يدرك الجانب الأردني أن خلفية القرار سياسية بالدرجة الأولى وهذا النهج ليس جديداً على حكومة نتنياهو التي سبق لها حجب كميات من الغاز المتفق عليه وعرقلة بروتوكولات فنية اخرى ورفض اتفاقيات مائية إضافية وقّعتها حكومات إسرائيلية سابقة مع الأردن
من الواضح ان هذا الضغط تعزز اكثر في ظل التصعيد الكبير الذي رافق الحرب على غزة حيث تحولت المياه إلى أداة عقابية تستخدمها تل أبيب للرد على المواقف السياسية الأردنية الرافضة للاعتداءات الإسرائيلية واستمرار حرب الابادة الجماعية وقد ظهرت بوادر هذه السياسة حين أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية أن ضخ المياه قد يتوقف بسبب تصريحات أردنية مواصلة اعتبرتها الحكومة الإسرائيلية معادية كما تزامن ذلك مع تعليق الأردن لاتفاقية المياه مقابل الكهرباء بعد استهداف اسرائيلي لمستشفى ميداني أردني في غزة مما جعل نتنياهو يعيد النظر في أي ترتيبات مسبقة كانت قائمة بين الجانبين مستغلا حاجة الأردن للمياه كوسيلة ضغط مباشرة وفي الوقت الذي تحدث فيه محللون إسرائيليون عن ضرورة معاقبة الأردن يعاني الشارع الأردني من تبعات هذا التعسف غير المبرر والذي يهدد الزراعة في وادي الأردن وإمدادات المدن الكبرى بمياه الشرب ما يضع الحكومة أمام مسؤوليات اجتماعية وسياسية ثقيلة ومقلقة
الأزمة تزامنت مع تشابك ملفات المياه ومشكلات أخرى مثل نقص الغاز وانقطاعه المتكرر وتراجع تدفقات اليرموك من الجانب السوري وغياب استغلال فعال للموارد الجوفية العميقة داخل الأردن نفسه وهناك تساؤلات شعبية متكررة حول أسباب تأخر مشاريع التحلية والاستفادة من ثروات باطن الأرض والتي يرتبط بعضها بقرارات متراكمة وسياسات طويلة الأمد جعلت الأردن يعتمد على مصادر خارجية بدل تطوير اكتفائه الذاتي تدريجياً كما يذكر كثيرون بأن مياه نهر الأردن التاريخية التي حولت اسرائيل مجراها منذ عقود هي في الأصل موارد أردنية - فلسطينية تمت السيطرة عليها بالقوة ليعود الأردن بعد ذلك ويشتري جزءاً منها من الطرف الذي استولى عليها وهذا التناقض فتح الباب لانتقادات واسعة تتساءل عن منطقية استمرار هذا النمط من العلاقات وعن مدى قدرة الأردن في المقابل على استخدام أوراق الضغط التي يمتلكها لمواجهة التلاعب و التعنت الاسرائيلي
التوترات الحادة اشتعلت بعد تلويح إسرائيل ابقطع ما يصل إلى مئة مليون متر مكعب سنوياً وهي كمية تعتمد عليها الاردن في السنوات الشحيحة فيما ينبه خبراء الطاقة والمياه إلى أن قطع الغاز والمياه معاً سيشكل صدمة استراتيجية للدولة الأردنية لان غياب الغاز يعني التحول إلى السولار الأغلى ثمناً بكلفة قد تتجاوز مليار دولار سنوياً فيما يؤدي نقص المياه إلى خطر مباشر على الزراعة والتزود المنزلي ومع ذلك تؤكد أطراف أردنية متخصصة بأن قطع المياه لن يؤدي إلى عطش شامل لأن الكمية الإسرائيلية تمثل نسبة صغيرة من إجمالي الاستخدام لكن الأثر الاكبر سيوف يظهر في الضغط على الشبكات وفي اضطرار الحكومة لتشغيل آبار جوفية إضافية أو شراء محروقات بكميات اكبر لتشغيل محطات ضخ أكثر بكلفة أعلى الأمر الذي ينعكس في نهاية المطاف على حياة المواطنين ماديا ومعيشيا
الوقائع على الارض تشير إلى إسرائيل تستخدم المياه كما تستخدم الحدود والتنسيق الأمني والاتفاقيات كأدوات تفاوض تخدم توجهات اليمين المتطرف وفي المقابل يجد الأردن نفسه أمام معادلة معقدة فهو يرفض الخضوع للشروط الإسرائيلية لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع ترك شعبه يواجه أزمات مائية خانقة بينما مشاريع التحلية المحلية لم تكتمل بعد و تل أبيب تلوّح بقطع الإمدادات ما يجعل عمّان تفكر جديا في تسريع انجاز مشاريع بديلة اخرى في المستقبل مثل الناقل الوطني لتحلية مياه العقبة وربطها بالشمال إضافة إلى تعزيز التخزين الاستراتيجي للمحروقات والغاز والبحث عن شركاء إقليميين لإقامة مشاريع نقل مياه ضخمة قد تشمل البحر الأحمر أو خطوط واردات بعيدة المدى
أزمة المياه الراهنة تُظهر أن الخلاف بين الأردن وإسرائيل لا يتعلق بكمّيات تُضَخ من هنا أو تُحتجز من هناك فحسب بل بواقع بنية سياسية غير مستقرة تحكم العلاقة منذ توقيع اتفاقية السلام والمياه لم تكن يوماً مورداً تقنياً بل ورقة نفوذ مبنية على اختلال واضح في ميزان القوة ومع عودة نتنياهو إلى الحكم اصبحت هذه الورقة أكثر حضوراً حيث يجري تكييف الالتزامات المائية بما يخدم حسابات تل أبيب لا بما يحترم نصوص الاتفاقات وهنا يواجه الأردن اختباراً مضاعفاً في الدفاع عن حقه المائي من جهة وتفادي الانزلاق إلى مواجهة سياسية مفتوحة مع حكومة متهورة تتقن فن صناعة الأزمات من جهة أخرى
ليس خافياً أن استخدام نتنياهو لملف المياه يتجاوز إطار العلاقات الثنائية ليصبح جزءاً من صراع سياسي داخل إسرائيل نفسها وهو يدرك أن إظهار التشدد تجاه عمّان يمنحه نقاطاً إضافية أمام قواعد اليمين التي تُغذّى خطاب القوة وإظهار السيطرة على المحيط العربي ومن هنا تتحول المياه إلى رمز سياسي لا علاقة له بحقيقة الاحتياجات أو الواقع المناخي بل بتقديم نتنياهو لنفسه باعتباره الرجل القادر على إخضاع دول الجوار وهذا يفسر لماذا تعود أزمة المياه لتشتعل مع كل أزمة حكومية داخل إسرائيل وكأن الأردن جزء من مشهد الاستهلاك الانتخابي المربك هناك
أمام هذا السلوك الاسرائيلي الارعن بات الأردن أكثر ميلاً لإعادة هندسة منظومة أمنه المائي بعيداً عن الارتهان لإرادة حكومة تتبدّل أولوياتها وفق تقلبات وضجيج السياسة الداخلية حيث تتحرك المملكة اليوم في اتجاه توسيع مصادرها البديلة من مشاريع التحلية والطاقة المتجددة إلى بناء شراكات إقليمية جديدة لا تمر عبر بوابة تل أبيب وحدها ويبدو واضحاً أن عمّان لا تنظر إلى الأزمة بوصفها خلافاً عابراً بل مؤشراً على ضرورة تكريس مسار استراتيجي طويل المدى يقلّل من قدرة أي طرف على التأثير في مفاصلها الحيوية وهنا قد تتحول المحنة إلى فرصة لإعادة التفكير في إدارة المورد الأكثر حساسية في مستقبل البلاد
المشهد في بعده الإقليمي يزداد تعقيداً حيث تحاول إسرائيل استثمار ملف المياه في سياق أوسع لإعادة ترسيم حدود نفوذها في المنطقة وهي تطرح نفسها كمزود لا غنى عنه للموارد الحيوية لمنحها هامشاً إضافياً للضغط والتأثير في القرارات العربية ومحاولة إنتاج معادلات التبعية التي تسعى عمّان بطبيعة الحال إلى تفكيكها وهذا المسار إن استمر سيحول المياه إلى أداة تضبط من خلالها إسرائيل إيقاع المشهد الإقليمي بينما يدرك الأردن أن الإذعان لهذه المعادلة يعني القبول بالمزيد من الابتزاز في ملفات أخرى أكثر حساسية ومن هنا، تتشكل ملامح مواجهة غير صاخبة لكنها طويلة النفس بين دولة تدافع عن استقلال قرارها وأخرى تبحث عن توسيع نطاق نفوذها عبر التحكم في صنبور الحاجة الضرورية
في ظل هذه المشكلة تبرز حقيقة مفادها أن الأردن لا يستطيع أن يظل رهينة لما يقرره رئيس وزراء إسرائيلي باستخدامه مورد المياه كأداة ضغط سياسية وان الاستمرار في الاعتماد على مصدر واحد يعني استمرار التعرض للابتزاز كلما تغيرت الظروف ومن هنا تبدو الحاجة ملحة اكثير لأن تنجز الدولة الأردنية مشاريعها المائية المستقلة وأن تفتح الباب أمام أفكار غير تقليدية مثل استيراد المياه من مصادر دولية اخرى أو عبر تقنيات النقل الحديثة التي يتوقع أن تتحول خلال العقود المقبلة إلى واقع شبيه بأساطيل نقل النفط ولا بد من الفهم ايضا بآن استعادة الأردن لكرامته المائية لن تتحقق إلا حين يصبح امتلاكه للمياه قراراً داخليا خالصا وغير خاضع للابتزاز ولا مرهوناً لأي ضغوط خارجية وعندها فقط يمكن لعمّان أن تقف بثبات أمام كل محاولات الإخضاع وتفرض خياراتها الوطنية المستقلة بكل قوة
في النهاية : ان ما يمارسه نتنياهو ليس سياسة دولة متزنة بل نزق زعيم مأزوم ومرتبك يظن أن خنق الأردن مائيًا سيمنحه وزنًا إقليميًا لم يعد يملكه لكنه يتجاهل حقيقة بسيطة ان الأردن ليس الحلقة الأضعف بل الطرف الذي صمد في وجه عواصف أكبر من ظنونه و ألاعيبه وحافظ على توازنه حين انهارت من حوله خرائط كاملة وإذا كانت إسرائيل تراهن على هشاشة الوضع المائي لتفرض إرادتها فإن عمّان بخبرتها الطويلة في إدارة الأزمات تعرف أن الندرة قد تكون لحظة ولادة جديدة وأن الابتزاز مهما اشتد لا يصنع تبعية ولن يخلق معادلة جديدة وان ما يصنعه نتنياهو يقود الى مزيد من الوعي الأردني بأن القادم ويتطلّب ضرورة الانفكاك التدريجي من أي نفوذ مستقبلي يمر عبر صنبور المياه وإذا كان نتنياهو يلوح بالمياه كسلاح ضغط فالأردن يرد بصمت الدولة الواثقة لا بانفعال اللحظة وبقرارٍ واضح لن تكون مياه الأردنيين ورقة تفاوض في يد أحد مهما بلغت الكلفة والتضحيات
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية