حسن علي طه
على مدى عقودٍ طويلة، لا سيّما بعد الحرب الأهليّة وانحلال الدولة، ثمّ إعادة صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديد بعد اتفاق الطائف، جرى حلّ الميليشيات عبر إلباسها لبوس الدولة. فأصبح أبو الجماجم و أبو رصاص جزءًا من القوى الأمنية التي يُفترض بها حماية حدود الوطن وأمن الناس، وصار مسؤولهم وزيرًا ونائبًا، وفي بعض الأحيان رئيسًا.
أصبحت الطائفة ركنًا من أركان بناء المجتمع، بما لها من امتيازات، وبات رجال الدين يُعيَّنون باسم زعيم الطائفة وبمباركته ليمثّلوا الله في عباده.
وتمّت خصخصة العدالة: قاضٍ لكَ وقاضٍ له.
ثم الأمن: ضابطٌ لك وضابطٌ له.
أما سلطة الإعلام فتحوّلت إلى شاهدِ زور، إذ صار لكلّ طائفةٍ وزعيمٍ بوقٌ وشاعرُ بلاطٍ تُترجم به الأهواء لقاء كيسٍ من الدراهم.
ومنذ ذلك اليوم، جرى تقاسم “الجبنة” بين مكوّنات الدولة.
وفي كلّ مرّةٍ تتشكّل فيها حكومة، تطلّ علينا بأرقى العبارات وألطفها فيما يسمّى البيان الوزاري، وفيه من العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية ما يجعلك تكاد تُنشد طربًا… قبل أن تكتشف أنّه كلامٌ على ورق.
واليوم، وعلى مسافة عامٍ على حكومة الرئيس نواف سلام، نسأل:
أين البيان الوزاري؟
أين سيادة الدولة أمام اعتداءات العدو؟
أين أموال المودعين؟
أين حقوق المتقاعدين؟
أين الإنماء المتوازن، بل أين الإعمار أصلًا؟
دولةُ الرئيس، ووزيرُ داخليّتك… دولةٌ على مَن؟
على الفقراء والمساكين الذين ازداد فقرهم بعد انهيار البلد وضياع أموالهم في المصارف؟
دولة على بَسطةِ خضار؟ على بائعٍ متجوّل؟ على درّاجةٍ نارية؟
أين أنتم من الأملاك البحرية والنهرية؟
أموالُ الناس المسروقة في المصارف… هل لديكم علمٌ بها؟ أم أنّ اختصاصكم الوحيد هو “نزع السلاح”؟
هل تعرفون شيئًا عن ملفّ الكهرباء وأصحاب المولّدات؟ عن الماء وأصحاب الصهاريج؟
حين يُقام حاجز للدراجات النارية!
ورغم أنّ الناس لا تحبّ الدرجات إلا إنّها تجد في حواجزكم ما يستدعي لفت نظر أصحاب الدراجات :
"انتبه… في حاجز!"
فالناس تكره الظلم، ما دامت دولتكم تترك اللصوص الكبار في الجمارك والمرفأ والمطار، حيث يدخل الذهب كأنّه "تنك"!
وما دام الفساد مستشريًا في مؤسسات الدولة، والنهب المنظّم حاكمًا، وسياساتكم لا تُنتج سوى الضرائب، فاعلموا أنّكم لم تقدّموا جديدًا.
فمنذ أربعة عقود، كلما جاءت حكومة مارست “الدولة” على الفقراء فقط.
وهذه ليست هيبة… هذا هو منتهى الظلم.
وانما يحتاج إلا إلى الظلم الضعيف.
رحم الله ابن خلدون الذي كتب في مقدمته قبل سبعمائة عام:
"عندما تكثر الجباية تشرف الدولة على النهاية."
وعندما تنهار الدول يسود الرعب، ويهرب الناس إلى طوائفهم، وتكثر العجائب، وتعمّ الإشاعة، ويعلو صوت الباطل، ويخفت صوت الحق، وتضيق الأحلام، ويموت الأمل، ويزداد اغتراب العاقل، وتضيع ملامح الوجوه…