نقطة في بحر الحقيقة،،،
مقالات
نقطة في بحر الحقيقة،،،
محمد سعد عبد اللطيف
18 كانون الأول 2025 , 04:40 ص


محمد سعد عبد اللطيف،،،

في زمنٍ لم يعد فيه السقوط حدثًا استثنائيًا، بل حالة عامة تُدار وتُسوَّق وتُبرَّر، أصبح الانهيار الأخلاقي مشهدًا يوميًا لا يوقظ دهشة ولا يستفز ضميرًا. عالمٌ ينهار من داخله، لا لأنه يجهل القيم، بل لأنه تخلّى عنها طوعًا، وقرّر أن يستبدل المعنى بالضجيج، والحق بالمنفعة، والفكرة بالصورة.

وسط هذا العبث المنظّم، يكفي أن يبقى إنسان واحد واقفًا على الحق، لا يساوم ولا يبرر، ليكشف خواء الأغلبية وزيف المشهد. فميزان العدالة الإلهية لا يعرف الكثرة، ولا ينخدع بالجماهير، بل يُقيم الوزن على الثبات حين يسقط الجميع. هناك، في الحساب الأخير، قد يرجح فرد واحد بصدقه أمة كاملة بباطلها.

ذلك الثابت لا يقف في مواجهة البشر، بل في مواجهة الوهم. الوهم الذي جعلنا نخلط بين الحقيقة والديكور، بين الجوهر والمشهد، بين البناء الصلب وعلب الكرتون التي شُيّدت على عجل وسمّيناها حضارة. وحين تهب لحظة الكشف، ينهار المسرح، وتُسحب الستائر، ويظهر الخشب العاري، وتتكشف الحبال التي كانت تحرك العرائس.

وحين تُهتك الأستار وتُقام الموازين، سنكتشف حجم الخديعة. سنفهم أن الدنيا لم تكن سوى مساحة اختبار، لا مقر إقامة، وأن الزمن الذي استهلكنا في صراعات تافهة لا يساوي شيئًا حين نخطو بأقدامنا في الأبد. سننظر إلى حياتنا كما يُنظر إلى رسم كروكي سريع، أو ظلٍ عابر، أو نموذج من صلصال صُنع لتقريب معنى بعيد، لا ليكون الحقيقة ذاتها.

وسنُدرك — دون جدال — أننا جميعًا سنكون ترابًا، وأن حفنة تراب واحدة ستُنهي كل الصراعات، وتُسقط كل الألقاب، وتساوي بين من توهّم العلو ومن عاش في القاع. هناك، حيث تنتهي الحياة كما عرفناها، لا يبقى من صخب الدنيا شيء، ولا من ادعاء القوة أثر.

وحين يأتي اليوم الذي ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، سينهار العالم كما نعرفه، لا لأن الأرض تهتز، بل لأن الأوهام تسقط. يوضع الميزان، فلا فرق بين عربي وأعجمي، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين غني وفقير، ولا كبير ولا صغير. الجميع يقف عاريًا من الامتيازات بين يدي الخالق.

في تلك اللحظة، سنفهم متأخرين أن الدنيا لم تكن البحر، بل نقطة تحمل شيئًا من ملوحته، لكنها لا تختصر اتساعه ولا عمقه. وأن الخطأ لم يكن في وجودها، بل في تقديسها، وفي تحويلها من ممر إلى غاية.

نحن لا نحتاج إلى مزيد من الضجيج، بل إلى صرخة.

صرخة توقظ الضمائر في زمن التخدير،

وغرف إفاقة نخرج فيها من صراعات تافهة استنزفت أرواحنا،

ومن انحدار أخلاقي نبرّره بالفلسفة،

ونغلفه بنقاشات زائفة عن الحرية والحياة،

بينما الحقيقة أننا فقدنا البوصلة.

النجاة ليست في تغيير العالم، بل في ألا يسمح الإنسان للعالم أن يغيّره من الداخل. أن يبقى وفيًّا للحق، حتى لو بدا غريبًا، حتى لو وقف وحده. فذلك الثبات — في ميزان الغيب — قد يوازي أمة، ويُدين عصرًا كاملًا.

وحين ينقشع الغبار، سنعلم أن البحر الحقيقي كان حاضرًا طوال الوقت…

وأننا، بكل صخبنا، انشغلنا طويلًا بنقطة،

وظننّاها كل الماء.

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية

الأكثر قراءة السباق مع الزمن
السباق مع الزمن
هل تريد الاشتراك في نشرتنا الاخباريّة؟
شكراً لاشتراكك في نشرة إضآءات
لقد تمت العملية بنجاح، شكراً