في ظل القلق الكبير على المصير لدى المسيحيين، خصوصًا في لبنان، بعد ما حصل في العراق وسوريا، وحتى ما يحصل تجاههم من استفزازات وتحقير من قبل الصهاينة في فلسطين المحتلة – مهد المسيحية – وذلك يحصل تحت المظلة الأميركية – الغربية.
نجد أن بَعضَ قياداتِ المسيحيين في لبنان، الروحيةُ منها والسياسية، تُوْغِلُ أكثرَ في التماهي مع السياسات الصهيوأميركية وأدواتها في المنطقة، خصوصاً من التكفيريين، فهم يُباركونَ مَنْ قتلَ وسبى وهجّرَ المسيحيين، ويُعادونَ من قاتَلَ واستُشهِدَ دِفاعًا عنهم، كلُبنانيين، ليس لأنهم مسيحيون، إنّما حفاظًا على النسيجِ الاجتماعيّ التاريخيّ للأُمّةِ والمنطقة، في مُواجهَةِ الهجمةِ الاستعماريةِ المُتجدِّدة، والتي تستهدفُ تفتيتَ المنطقةِ، ليس كياناتها سياسيةٌ وحسب، بل حتى نسيجُها الاجتماعيّ، وإعادةَ تشكيلِها، بما يخدم الهيمنةَ الاستعمارية، وتكثيفَ الاستغلالِ للمواردِ الطبيعيةِ ونهبِها، وتعظيمَ قُدُراتِ رأس الهيمنة، الولايات المتحدة، في مواجهةِ النموّ المتصاعدِ لأممٍ مستقلة وموحدة، بما فيها تِلكَ التي تُحسَبُ في دائرةِ الحلفاءِ لها.
إنّ التّدقيقَ في سلوكِ الكنيسةِ المارونيةِ اللُّبنانيةِ والقوى المسيحيةِ الفاعلةِ، ودراسةُ هذا السّلوك، يوصِلانِ الدّارسَ إلى وضع الأمرِ في دائرة الجهل بالمخاطر، والأوهام الّتي تُقدِّرُها هذه القياداتُ تُجاهَ حِرصِ أميركا والغربِ على الوجودِ المسيحيّ في الشرق.
ومِن هُنا، لا يُمكنُ بناءُ معرفةٍ حقيقيةٍ، توصِلُ إلى موقِفٍ سليم من كُلِّ مايجري في المنطقة، إمَّا بسببِ ضيقِ أفقِ بعضِ هذهِ القيادات، و تجنُّبِ الغوصِ بِعُمقٍ في خلفياتِ مواقفِ البعضِ الآخرمنها.
وإنَّ مُراجعةَ تاريخِ الحركةِ السياسية المسيحية في لبنان، والمغامراتِ التي اندفعت بها، وكلَّفتِ المسيحيينَ الكثيرَ منَ الضحايا، فضلًا عن التهجيرِ، وهجرةِ الشباب، والأهم ضعفُ الوزنِ السياسيِّ لهم، وضعفِ تأثيرِهم في صناعةِ الخيارات، ليُعطي الدلالةَ على أنّهم لا يأخذونَ العِبَرَ ولا الدروسَ، من تجاربهم السابقة.
وهذا ما يؤدي بِهم إلى تشخيصٍ خاطئٍ للواقعِ المسيحيّ، ولِما يُفرِزُهُ من سياسات.
إنَّ جوهرَ موقفِ القيادات المسيحية التي تستحوذ على النُّطْقِ بِاسمِ المسيحيينَ عمومًا، يعودُ في الأصلِ إلى لَتْنَنَةِالكنيسةِ وتغريبِها عن مَشرِقِيَّتِها وأصولِها مع الحملاتِ الصليبيةِالأولى التي رَعَتْها ومَأْسَسَتْها ومنحتها امتيازاتٍ اقتصاديةًً وسياسيةً واجتماعية، واقتطعت لها مناطِقَ كبيرةً تحتلُّ الكنيسةُ النُّفُوذَ الأعظمَ، والتَّمَلُّكَ فيها (على سبيلِ المثالِ لا الحصر: في لبنانَ تُمَثِّلُ الكنيسةُالمارونيةُأكبرَ مالِكٍ عقاريٍّ في لبنان، دون منازع).
ويُشَكِّلُ ذلك عزلًاتامًا بين النسيجِ الاجتماعِيِّ التّارِيخِيِّ لِلمنطقةِ والمسيحيين.
ورغمَ التحوُّلاتِ في أشكالِ الاستعمارِ وأساليبه ومراكزه، ظلَّ المسيحيونَ يَحْظَوْنَ بِالرِّعاية، ليس لأنَّهم عقائديًا ارتبطوا بالكنيسة الغربية، بل لِلدَّورِ المنوطِ بِهِم والمُوكَلِ إليهم من قِبَلِ هذا الِاستِعمارِ، في الكيان اللبناني، ليكونَ مَوْطِئَ قَدَمٍ لهُ حينَ تدعو الحاجةُ إلى التَّدَخُّلِ العسكريِّ بِوَجْهِ العُمْقِ العربي الإسلامي، وموقعَ إيداعِ رأسِ المالِ العربيّ الهاربِ من ثوراتِ التأميمِ وبَوّابةَ تسويقِ السِّلَعِ والبضائعِ الغربية.
وكان ذلك في فترةِ صعودِ الرأسماليةِ الغربيةِ وحاجَتِها للخاماتِ والأسواق، إذْ كان لا بُدَّ لها من وكلاء.
إلا أنَّ تطور الصراع في المنطقة، ومع ثورات "الاستقلال" سعى الغربُ عمومًا إلى تثبيت التقسيم الكياني للمنطقة، لتسهيلِ هيمنتِه وسيطرتِه.
وكان الاهتمامُ الأكبرُفي لبنانَ ينصبُّّ على تكريسِ انعزالِيَّتِهِ وتعميمِها على كلِّ تشكيلاتِهِ الاجتماعية.
لقدِ اندفعَ المسيحيون اللبنانيون بمغامرات عديدة، وفي كل عقد تقريبًا، كانت لهم مغامرةٌ تنطلقُ من اعتبارِ لبنانَ مسيحيًا أوّلًا، إلّا أنّ أكثرَ المغامراتِ تأثيرًا كانت إشعالُ الحربِ الأهلية عام 1975 بهدفِ التقسيم، وذلك نتيجةَ تفلُّتِ المسلمينَ عُمومًا، والسُّنَّةِ خصوصًا، من هيمنتِهم الداخليةِ واستئثارِهم بكلِّ السلطاتِ والامتيازات.
لم يَجِدِ الغربُ مصلحةً لهُ في تقسيمِ لبنانَ بعدَ انهيارِ "الدولةِ" واقتصارِ نفوذِ المسيحيينَ في مناطقَ ضيقةٍ ومعزولةٍ لا تمثلُ بحدِّ ذاتِها أيَّ قيمةٍ لِلغَرب، إذ لا يُمكِنُهُمُ القيامُ بالدور الوظيفي الذي أنشئ لبنان لأجله.
وقد تكونت لدى المسيحيين نخبةٌ من شرائحَ وازنةٍ، بفعل الرعايةِوالحمايةِالغربيةِ الموروثةِ من الحملاتِ الصليبية، وحتى في عهدِ السلطنةِ العثمانيةِ في فترةِ شيوخها.
أولى وأهمُّ هذه الشرائحِ كانتْ فئةُ"الاكليروس أو"(الجيش الأسود) الذي كان يتولَّى التعبئةَ عَبْرَ العِظاتِ الأسبوعية، وكانت تُعَمَّمُ على المطارنةِ والكهنة، وصولًا إلى أصغرِ كنيسة. وتقدِّمُ سردياتٍ تأريخيةً خاصةً، لا علاقةَ لهابالتاريخِ الحقيقي،وتصورُلبنانَ مُنْحَةً إلهيةً مُقدّسة.
وقد أنشأت هذه النُّخبةُ مدارسَ وجامعاتٍ تُخَرِّجُ نُخَبًا معاديةً لِأَيِّ حِراكٍ عربيٍّ يَهدفُ إلى التَّحَرُّرِمِنَ الهيمنةِ، أيًا كانتْ عَقِيدَتُهُ وأَيْدْيولوجِيَّتَه، وتنفيهِ كتشكيلٍ قوميّ، كما تُعادي أيضاً قوى التحرُّرِ في العالمِ التي تسعى إلى التَّفَلُّتِ مِنَ الاستعمارِ الأوروبي.
وشريحةٌ أخرى من الأنتليجَنْسيا مِن كبارِ الموظفينَ المدنيينَ والعسكريين، ومن ثَمَّ التشكيلاتِ السياسيةِ الحزبية.
ومع تنامي النزوعِ نحوَ الاستقلالِ في كلِّ الكياناتِ المستعمرةِ في العالم، شَحَّتْ مواردُ دُولِ الاستعمارِ نتيجةَ تحوُّلِ مركزِ الرأسماليةِ القائمةِ على النَّهْبِ، من أوروبا إلى أميركا، اختلفت طبيعةُالهيمنةِوإدارتُها،وأصبحتْ بحاجةٍ إلى تكثيفِ الاستِغلالِ والاستئثارِ بالمواردِ الطبيعيةِ والتحكمِ أكثرَ بالمواقعِ والمعابِرِ الدولية. فقد المسيحيون في لبنانَ الدَّوْرَ الممتازَ الذي وفَّرَ لهمُ المكاسبَ بِفِعْلِ عدمِ قُدرتِهم على تلبيةِ مُتَطلَّباتِ المرحلةِ التاريخيةِ الجديدة، والتي احتلَّتْ فيها "إسرائيلُ" أهميةً أكبرَ بالنسبةِ لِلوِلاياتِ المتحدة.
ومنَ النسيجِ الِاجِتِماعِيِّ العَرَبِيِّ اتَّخَذَتْ مِنَ الوهابيةِ والأصولياتِ التكفيريَّةِ أدواتٍ رئيسيةً لإحكامِ السيطرةِ على المنطقة؛ وهنا حصلَ التحوُّلُ في الفكرِ السياسي المسيحي مِنَ المسيحيةِ المُتَغَرِّبَةِ إلى المسيحيةِ المتصهينة، ولسانُ حالِ هؤلاءِ المسيحيينَ يُرَدِّدُ:
إنْ كانَ هذا التحوُّلُ يعيدُ رسمَ خارطةِ المنطقةِ، ويُنشِئُ كياناتٍ منفصلةً على أُسُسٍ عِرْقِيّةٍ وطائفيةٍ،كما هو مطروحٌ بالنسبةِ لِلأَكرادِ والدُّروزِ والعلويين، فَلْيَكُنْ لبنانُ وطنًا للمسيحيين.
وبما أن الحُظْوَةَ تكونُ للكيانِ الصهيوني، فَليكُنِ المسيحيونَ همُ الأقربُ له.
وهذا ليس مجردَ اعتقادٍ لَدى هذه النُّخبةِ المسيحيةِ بكل شرائِحِها، بل هو خيارٌ راسخٌ، ولهُ فلسفتُهُ التاريخية، حتى مرتبةُ "الطائفةِ الممتازة" كانت بالنسبةِ لهم أهمَّ تنازُلٍ من أجلِ شراكةٍ اعتقدوا أنَّها تُؤَمِّنُ ضماناً بكونِهِم المُعْتَمَدينَ مِنْ قِبَلِ الغربِ وأنّهُمُ الأقربُ إلَيْه.
بِغَضِّ النظرِ عن أنَّ هذا الخيارَ له أفقٌ حقيقيّ، أو لا (أُسارع بالقول: لا أفق له – ولهذا بحث آخر).
والسؤال: كم سيكلف المسيحيينَ هذا الخيار؟ وهل من كلفة؟ نعم، تدركُ هذه النُّخَبُ أنَّهُ خيارٌ مُكْلِفٌ على عامّةِ المسيحيين، لكنه أيضاً يصبحُ مصدرَ استعطافٍ لِلغرب، وموردَ رِزقٍ لهذه النخبةِ بشرائحِها المختلفة.
لذا تتجلى مواقفُها، بمستوياتِها المختلفة، بالكثيرِ من الحِقْدِ والفجورِ تُجاهَ قوىٰ المقاومة والاعتراضِ على المخططاتِ والمشاريعِ الصهيوأميركية. وهم تماماً كالعـدوِّ الصِّهيُونِيّ، بل أكثرَ منه؛ فلم تَعُدْ ترضيهم أنصافُ الحلول، لأن الصهاينة تبقى لهم الحظوةُ باعتبارِهِمُ الذراعَ العسكريَّ في المنطقة.
أما فلا وظيفة لهم يؤدونها خدمة للهيمنة الأميركية إذا نجح مشروع الاستحواذ على المنطقة ومواردها، وإذا ما أراد الأميركي توظيف أحد يضمن له السيطرة على المواقع الاستراتيجية والموارد الحيوية فهو سوف يعتمد على بنية اجتماعية راسخة في دائرتها. (في هذا السياق تأتي المبادرة الأميركية تجاه الشيعة في لبنان، وهم واهمون في هذا الاتجاه، ولهم سابقة في العراق).
من الغباء الاعتقاد بأن كشف المخاطر وتسليط الضوء على الكيان اللبناني بصورته الحالية وما يتهدد الوجود المسيحي سوف يغيّر في خيارات النخبة المسيحية؛ فهو الوهم بعينه.