د . مهدي مبارك عبد الله
مع وصول بنيامين نتنياهو ووفده المرافق يوم الإثنين 29 ديسمبر 2025 منتجع مارآ لاغو في فلوريدا بدأت تتجه الأنظار إلى مدى قدرة الطرفين على التوفيق بين الاستعجال الأميركي لتحقيق إنجاز سياسي سريع والخطوط الإسرائيلية الحمراء التي لا زالت ترى في ملفات غزة وإيران وحزب الله قضايا لا تحتمل التسويات
وفي الوقت الذي يموت فيه أطفال غزة بردًا وجوعا تحت خيام ممزقة أو بلا خيام أصلًا كان ينتظر ان تعاد صياغة القرارات بهدوء في الولايات المتحدة لا لإنهاء الحرب بل للبحث عن مخرج بعد فشلها واعادة تدوير للحلول السياسيًة والعسكرية
ما بعد وقف إطلاق النار في غزة لا يشبه السلام بقدر ما يشبه هدنة فوق أنقاض مفتوحة على كل أشكال الموت البطيء فبينما تُسوّق إسرائيل وحلفاؤها الهدوء النسبي على أنه إنجاز سياسي وأمني يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع تحت وطأة حصار خانق وشتاء قاسٍ بلا مأوى ولا تدفئة ولا خيام ولا كرافانات بعد أن تعمّدت إسرائيل منع إدخال أبسط مقومات الحياة في خرق فاضح لأبجديات القانون الدولي الإنساني أطفال يموتون من البرد ومرضى بلا دواء ونازحون يفترشون الركام في مشهد يعكس أن وقف إطلاق النار لم يكن سوى أداة لإدارة الكارثة لا إنهائها وفي قلب هذا المشهد الإنساني المأساوي يأتي لقاء ترامب نتنياهو ليضع مصير غزة والمنطقة بأسرها على طاولة حسابات سياسية وأمنية معقّدة تتجاوز القطاع إلى الإقليم كله
في هذا السياق المفجع يأتي لقاء دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو لا بوصفه حدثًا دبلوماسيًا عاديًا بل كاجتماع إدارة أزمة صنعها الاحتلال ويبحث الآن عن طريقة لتدويرها لا حلّها اللقاء حيث يكشف مرة أخرى زيف الادعاءات الغربية بالحياد ويؤكد من جديد بأن الولايات المتحدة هي شريك كامل في صياغة ما يجري سياسيًا وقانونيًا وعسكريا وأخلاقيًا وأن الخلاف مع إسرائيل ليس خلافًا على الجوهر بل على التوقيت والأسلوب
تقديم موعد اللقاء عند الساعة الثامنة مساءً بدلًا من التاسعة لم يكن إجراءً تقنيًا بل رسالة ضغط واضحة فواشنطن تريد إنجازًا سياسيًا سريعًا قابلًا للتسويق وقرارات لا مواعيد مؤجلة وتطالب بالانتقال إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار مهما كانت الكلفة السياسية على نتنياهو بعد حرب فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة وألحقت أضرارًا جسيمة بصورة الولايات المتحدة نفسها في حين يحاول الأخير كسب الوقت وإعادة تعريف المرحلة الثانية بما يتوافق مع أجندته الأمنية الضيقة والتي تقوم على مبدأ واحد لا إعادة إعمار ولا انفراج دون نزع سلاح المقاومة خاصة وانه يدخل اللقاء محاصرًا بائتلاف يميني فاشي يرى في أي تنازل اعترافًا بالهزيمة وهذا ما يجعله يبحث عن مخرج يحفظ ماء وجهه دون أن يدفع أي ثمنً داخليً
جوهر الخلاف بين الطرفين لا يتمحور حول التفاصيل بل حول الرواية من انتصر ومن خسر ومن يحكم غزة مستقبلا وواشنطن تدرك أن الحرب لم تحقق أهدافها وأن استمرارها سياسيًا وأخلاقيًا بات عبئًا ثقيلًا لذلك تطرح حلولًا تدريجية تبدأ بإدارة مدنية وقوة استقرار دولية وحكومة تكنوقراط فلسطينية في محاولة لاحتواء المأزق بأقل كلفة سياسية ممكنة بينما تصر إسرائيل على نزع سلاح المقاومة كشرط اولي مسبق لأي خطوة وهو شرط تعلم قبل غيرها أنها عجزت عن فرضه بالقوة العسكرية ولن تستطيع تحقيقه بالمفاوضات كما ترفض أي صيغة لا تعترف صراحة بأن المقاومة هُزمت وتجُرّد بالكامل من قدرتها العسكرية وهو اعتراف لم تستطع فرضه في الميدان رغم كل ما ارتكبته من دمار وقتل
اسرائيل تدرك ان حماس لم تُهزم عسكريًا ولم تُكسر إرادتها السياسية رغم الدمار الهائل ولذلك فإن أي إعادة إعمار أو فتح معابر أو انسحابات إضافية دون تفكيك حقيقي للبنية العسكرية للمقاومة يُعد في العقل الأمني الإسرائيلي مكافأة مجانية لخصم صمد في المواجهة أما من زاوية واشنطن فإن الإصرار الإسرائيلي على نزع سلاح كامل وسريع يبدو غير واقعي في ظل تعقيدات ميدانية وغياب قوة دولية مستعدة لخوض مواجهة مباشرة مع فصائل مسلحة متجذرة في مجتمع محاصر
من منظور القانون الدولي نلاحظ ان الطرح الإسرائيلي يقوم على منطق القوة لا على مبادئ الشرعية حيث لا يجوز لدولة احتلال أن تشترط حقوق السكان المدنيين بتفكيك مقاومة نشأت أصلًا نتيجة الاحتلال والحصار ومع ذلك يُطرح هذا المنطق في واشنطن كخيار واقعي فيما يُغيب الحق الفلسطيني عن عمد في تقرير المصير وفي اختيار شكل إدارته السياسية والأمنية
صلابة وصمود المقاومة في غزة واقع المقاومة في غزة يفرض نفسه كعامل حاسم غير قابل للتجاهل فبرغم النزيف الكبير لا تزال قادرة على فرض معادلات ردع نسبية وعلى إفشال أي محاولة لإعادة هندسة القطاع أمنيًا دون توافق فلسطيني حقيقي وهذا ما يدفع واشنطن إلى تفضيل سياسة الاحتواء الطويل بدل الصدام المفتوح الذي ثبت عجزه كما أن أي تسوية لا تأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار ستبقى مجرد حبر على ورق قابل للاشتعال في أي لحظة وهذا ما يدفع واشنطن إلى تفضيل العمل وفق سياسة الاحتواء الطويل بدل الحسم الذي ثبت فشله ميدانيًا وأخلاقيًا في عامان من الحرب الاجرامية الاطول والاكثر كلفة مادية وخسائر بشرية في تاريخ الاحتلال الاسرائيلي
السيناريوهات المتوقعة بعد اللقاء لا تحمل أوهامًا كبيرة ولا توحي بانفراج قريب للازمة والسيناريو الاول المرجح عمليا هو تمديد فعلي للمرحلة الأولى من وقف إطلاق النار مع إبقاء الملفات الجوهرية معلّقة وهو ما يسمح لإسرائيل بمواصلة خنق قطاع غزة اقتصاديًا وإنسانيًا تحت غطاء سياسي والسيناريو الثاني يتمثل في زيادة الضغوط الأميركية الجزئية لإدخال المساعدات وتحسين الصورة الشكلية دون معالجة أصل الجريمة وأما السيناريو الثالث فهو العودة إلى التصعيد العسكري إذا ما فُرضت ترتيبات تمس جوهر الصراع أو حاولت تجاوز الواقع الميداني بالقوة
عسكريًا لا يبدو أن قرار الحرب الشاملة مطروح بشكل فورًي لكن اللقاء سيرسم قواعد اشتباك جديدة قائمة على التصعيد المحدود والضربات الانتقائية مع إبقاء كل الساحات مفتوحة للابتزاز السياسي وعلى رأسها جبهة لبنان حيث يُستخدم ملف نزع سلاح حزب الله ذريعة دائمة لإبقاء شبح الحرب قائمًا في الجنوب وعلى حافة الانفجار وبما يخدم معادلة الردع الإسرائيلية المهددة في أية لحظة ما يجعل أي تهدئة في غزة هشّة وقابلة للانهيار عند أول احتكاك بين الاطراف
في الملف الإيراني يتجلى التباين بين منطق الصفقة الأميركية ومنطق المغامرة الإسرائيلية خاصة وان تل أبيب تدفع نحو التصعيد أو التلويح به فيما يفضل ترامب إدارة الصراع بأدوات الضغط السياسي والعقوبات الافتصادية دون الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة غير مضمونة النتائج وهو ما قد ينتهي اقرار بتفاهمات رمادية تمنح إسرائيل هامش تحرك دون غطاء كامل
على الجانب السوري يبرز وجه آخر للسياسة الإسرائيلية يقوم على استغلال الفوضى وتفكيك ما تبقى من الدولة عبر القصف المتكرر والتوغلات المحدودة وإثارة التناقضات الداخلية تحت عناوين حماية الأقليات ودعم الدروز بعد الأحداث الدامية في الساحل السوري حيث تحاول إسرائيل تقديم نفسها كضامن أمني بينما تعمل فعليًا على تكريس نموذج التفتيت وإشعال الفتنة ومنع أي تعافٍ سياسي أو أمني لسوريا هذا السلوك لا ينفصل عن رؤية إسرائيل الأوسع لإقليم ضعيف مفكك بلا مركز قرار قوي وهو ملف حاضر ضمنيًا في لقاء ترامب نتنياهو وسط تباين بين حذر أميركي ورغبة إسرائيلية في توسيع هامش العبث الإقليمي
بقراءة تحليلية دقيقة نجد ان لقاء ترامب نتنياهو لا يحمل أي بشائر حل ممكنة بل على العكس فانه يكشف عمق المأزق الاستراتيجي والأخلاقي والسياسي الذي وصلت إليه منظومة الهيمنة الغربية وما يجري حقيقة ليس بحثًا عن سلام بل عن طريقة لإدارة فشل الحرب على حساب الضحايا والمرحلة المقبلة لن تُحسم في الغرف المغلقة وحدها بل في قدرة الشعوب والرأي العام العربي والدولي على كسر الصمت وفضح التواطؤ ورفض تحويل القانون الدولي إلى نص معلق يُستدعى عند الحاجة لحماية اسرائيل ويُعطّل عند ادانتها
على امريكا والعالم الغربي المستبد ان يعلموا جيدا ان غزة ليست عبئًا إنسانيًا بل اختبار سياسي وأخلاقي عالمي وثابت والمقاومة ليست تفصيلًا عسكريًا بل تعبيرًا عن فشل مشاريع الإخضاع والسيطرة وكل محاولة للالتفاف على هذا الواقع عبر صفقات أو "قوة استقرار" أو حكومات مفروضة ستظل هشّة وقابلة للانفجار وما بعد هذه القمة لن يكون أخطر من مما كان قبلها إلا إذا استمر التعامل مع الدم الفلسطيني كتكلفة جانبية ومع الصمود كعقبة يجب تجاوزها
لقاء ترامب نتنياهو يمكن اعتباره محطة مفصلية لكنه ليس لحظة حسم نهائي وإنه لقاء إدارة أزمات لا حلّها ورسم هوامش حركة لا قرارات قاطعة غزة ستبقى ساحة اختبار لإرادات متصارعة بين استعجال أميركي لإنجاز سياسي وخطوط حمراء إسرائيلية ترفض الاعتراف بتحولات الميدان وبينهما شعب محاصر يدفع ثمن الحسابات الكبرى بدمه وبرد ليله الطويل وما لم يُعاد تعريف الأمن ليشمل أمن الإنسان الفلسطيني قبل أمن الحدود فإن كل ما بعد هذا اللقاء سيظل هدنة فوق فوهة بركان لأن السلام الحقيقي لا يُبنى على أنقاض الضحايا ولا يُفرض على شعب ما زال يقاوم من أجل حقه في الحياة والحرية والاستقلال
ختاما نؤكد : انه في ظل هذه التعقيدات الاسرائيلية المتواصلة تبدو المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ستبقى مؤجلة حتى إشعار آخر بانتظار ما ستؤول إليه القمة التي قد تعيد رسم ملامح التوازن في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب أو تكشف بوضوح حجم التباعد الكامن بينهما في حين تبقى غزة تحت المطر والنار والمنخفض الجوي يفاقم مأساة نحو 900 ألف نازح تموتون بردًا في خيام مهترئة ويعانون أوضاعًا إنسانية بالغة الصعوبة
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية