الجنوب .. حيث تتحوّل الحياة إلى مقاومة، وكربلاء إلى وعيٍ يمشي على الأرض ..
بقلم ( عباس المعلم )
لم يكن عامًا عابرًا في سجلّ الألم الجنوبي، بل عامًا كاشفًا وفاضحًا، سقطت فيه الأقنعة نهائيًا عن نظام دولي يعرف القتل حين يراه، ويُتقن تجاهله حين يكون الضحايا من الجنوب. عامًا أكّد أن ما يُسمّى “المجتمع الدولي” ليس سوى بنية مصالح انتقائية، تُدين حين يناسبها، وتصمت حين يكون الصمت شراكة ضمنية في الجريمة.
في الجنوب، لا يُقاس الزمن بالتقاويم، بل بعدد الشهداء، وبوتيرة الاغتيالات، وبعدد البيوت التي تُقصف ثم تُترك بلا إعادة إعمار ولا مساءلة. هنا، كل حجرٍ شاهد اتهام، وكل شجرة لائحة دم، وكل بيت ملفّ مفتوح ضد عدوٍ واضح، وضد صمتٍ دولي، وضد عجزٍ رسمي لبناني يراوح بين التواطؤ والإنكار والعجز الممنهج.
ومن هذا المكان، لا تُكتب الكلمات من مسافة، ولا تُصاغ المعاني ببرودة المراقب. هنا، تُكتب السياسة بملح الدم، وتُفهم الحياة بوصفها امتحانًا دائمًا، لا هدنة فيه ولا حياد، حيث لا يعود السؤال كيف نعيش، بل لماذا نعيش.
نحن في الجنوب نعيش كل يوم، وكل لحظة، على حدٍّ فاصلٍ لا يُرى بين الحياة والموت، لا بوصفه خوفًا، بل كحالة وعي مكتملة، كمن يقيم في البرزخ عارفًا أن المعنى يولد بين النقيضين، وكأننا أبناء تلك اللحظة التي اختارت فيها القِلّة أن تكون معنى، لا عددًا..
نطوي الأيام كما تُطوى العصور، لا لأن الزمن ثقيل، بل لأن كل يوم هنا يحمل كثافة دهرٍ من الصراع والمعنى والاختبار، وكأن الزمن في الجنوب لا يمشي، بل يُمتحن.
في الجنوب، البقاء ليس غريزةً عمياء، بل اختيارٌ واعًٍ ،، أشبه بعهدٍ داخلي يُجدَّد كل صباح، عهدٍ لا يُكتَب بالحبر بل بالاستعداد للتضحية، والمقاومة لم تعد ردّة فعل ولا شعارًا، بل شرط الوجود نفسه .. هي اللغة التي بها تتكلم الحياة حين يُراد لها الصمت، والذكر الذي تتلوه الأرض كي لا تُنسى، والدرع الذي به تحمي الروح نفسها من الانطفاء.
عام ٢٠٢٥ كان عامًا للقتل العلني، اليومي، المتعمَّد. اغتيالات إسرائيلية مباشرة، دقيقة، تستهدف خيرة شباب الجنوب، أجملهم، أنقاهم، وأكثرهم التصاقًا بالأرض.
شباب يُقتلون لأنهم لا يصلحون للعرض كضحايا، ولأن دمهم يربك تسويات الخارج، فيما تتولى السلطة في الداخل مهمة الصمت، كأنها جزء من آلية القتل لا شاهدًا عليها ،، ولأن دماءهم لا تصلح للتدوير السياسي، فيُتركون لموتٍ تُديره قوى الخارج، وتؤمّنه سلطة داخلية اختارت السلامة مع العالم على حساب الحياة في الوطن، شباب يُقتلون لأنهم لا يطابقون مقاييس “الضحية المقبولة” في أسواق السياسة الدولية، ولأنهم يرفضون ان يكونوا وقودًا صامتًا لتسويات تُدار فوق جثثهم، بغطاء خارجي، وتواطؤ من دولتهم يتقن غسل يديه من الدم باسم الواقعية والحكمة الزائفة
هذه ليست “حوادث أمنية”، ولا “أضرارًا جانبية”، بل سياسة قتل مدروسة، تُنفّذها إسرائيل بغطاء أميركي واضح، وبصمت غربي وعربي مريب، وبعجز أممي مخزٍ، وبخطاب دولي مزدوج المعايير، يرى الدم الجنوبي تفصيلًا قابلًا للتجاوز.
هنا، في الجنوب …
لا يُشعلون الموت فينا إلا لنُشعل في مواجهته مزيدًا من المعنى، ولا يضيّقون الحصار إلا لنكتشف أننا، بثباتنا، من يضيّق الخناق على مشروع الفناء، كمن يحوّل الابتلاء إلى كشف، والجراح إلى أبواب معرفة، وكأن الدم حين يُراق بوعي لا ينزف، بل يُضيء. في قلب هذا الجنوب، وحوله،
لسنا من يحاصر الدنيا بالسلاح، بل بالثبات، وبالقدرة على العيش واقفين؛ الدنيا هي من تصطدم بجدار الجنوب، وتتآكل على صلابته، لأن هذا المكان لا يُختصر بجغرافيا، بل بإرادة تعرف أن الحياة حين تُدافع عن نفسها تتحوّل إلى مقاومة، وأن المقاومة حين تصبر تصبح قدرًا لا يُهزم.
الجنوب…
هنا حيث يستحيل فصل الوجدان عن السياسة، لأن السياسة تُمارَس هنا على الأجساد، وعلى القرى، وعلى الذاكرة الجمعية .. يضحك الأطفال بين الركام لا لأن الألم غائب، بل لأن الحياة في الجنوب فعل مقاومة أخلاقية في وجه مشروع قتل مستمر. منازل تحمل آثار القصف، وقرى تُدمَّر ثم تُمحى من الإعلام، لأن الجنوب لا يدخل ضمن خرائط التعاطف السريع ولا ضمن أولويات العدالة الانتقائية.
لكن الجنوب، رغم كل ذلك، لم يكن ولن يكون ضحية صامتة. هو أرض تعرف ثمنها، وشعب يعرف أن حبّ الأرض ليس نشوة خطابية، بل التزام وجودي. الشهداء هنا ليسوا أرقامًا في نشرات الأخبار، بل أعمدة بقاء.
هم الذين دفعوا حياتهم كاملة ليبقى للوطن معنى، وليبقى للسيادة مضمون، وليبقى للأرض من يحميها بالفعل لا بالتصريحات.
وهنا، في هذا الامتداد من التراب الذي تعلّم مبكرًا أن يقف في وجه السيف العاري، لا نرث كربلاء كحكاية، بل كمنهج وجود.
نعرف أن القلة ليست ضعفًا، وأن الوقوف في مواجهة الطغيان ليس مقام تهوّر، بل مرتبة وعي .. نعرف أن الدم الذي يُقدَّم بلا تردّد لا يطلب ثأرًا، بل يفرض ميزانًا جديدًا للعدل، وأن الشهادة ليست نهاية الجسد، بل اكتمال المعنى. في الجنوب، لا نسير إلى مصيرنا معصوبي البصيرة، بل نختاره كما اختير يومًا طريقٌ يعرف أن الخسارة الوحيدة هي النجاة بلا كرامة، وأن البقاء الحقيقي هو أن تظل واقفًا ولو تكاثرت السيوف.
أما الأسرى، فقضيتهم ليست إنسانية فقط، بل سياسية بامتياز. أسرى تُغلق ملفاتهم عمدًا، ويُترك مصيرهم رهينة ميزان قوى غير عادل، في ظل تواطؤ دولي فاضح، وصمت أممي يُفقد القوانين معناها.
والجرحى، الذين يحملون في أجسادهم ووجوههم خرائط النار والاشتباك، هم الدليل الحيّ على أن هذا الجنوب يُدافع عنه باللحم الحي، لا بالوساطات ولا بالوعود.
في عام الخيبات هذا، سقطت كل الأوهام. سقط وهم العدالة الدولية، وسقط وهم أن القوانين تُطبَّق على الجميع، وسقط وهم أن الصمت يحمي. تبيّن أن هناك دمًا مسموحًا بسفكه، ودمًا يُجرَّم الدفاع عنه، وأن الجنوب يُطالَب دائمًا بالصبر لا بالحماية، وبضبط النفس لا بوقف القتل.
في القرى المدمّرة، بين البيوت المنهكة والجدران المتشققة، لا يسكن اليأس كما يروّج البعض. يسكن غضب واعٍ، وإصرار ثقيل، وذاكرة لا تنسى. كل حجر مكسور هو شهادة اتهام ضد إسرائيل ككيان احتلال وعدوان، وضد نظام دولي شريك بالصمت، وضد دولة لبنانية عاجزة عن حماية أبنائها أو فرض حقهم في الحياة الآمنة.
في الجنوب، لا نطلب الخلاص، لأننا تعلّمنا أن الخلاص لا يُمنَح، بل يُصاغ. هنا، حيث تمتد كربلاء خارج زمنها، لا كذكرى تُستعاد، بل كاختبارٍ متجدّد، نفهم أن الوقوف ليس فعل جسدٍ مسلّح فحسب، بل مقام وعي، وأن السيف حين يُرفع بلا بصيرة يكون عبئًا، وحين يُرفع بمعرفة يصبح صلاة….الجنوب ليس تكرارًا للمأساة، بل تصحيحٌ لمعناها .. فهناك، في كربلاء، كُشفت القاعدة، وهنا، في الجنوب، تُستكمَل الدلالة.
نعرف، نحن أبناء هذا الامتداد، أن القتال ليس عشقًا للموت، بل رفضٌ لأن نُساق إلى حياة بلا معنى .. نعرف أن الدم، حين يُراق عن وعي، لا يطلب بكاءً، بل يطالب بصدق الموقف، وأن الشهادة ليست انفصالًا عن الدنيا، بل اشتباكًا أخيرًا معها على حقيقتها.
لهذا نقاتل بقلوب تعرف لماذا تُحبّ الحياة، وبعقول تدرك أن الكرامة ليست نتيجة، بل شرطًا مسبقًا لكل بقاء.
في الجنوب، يلتقي العارف بالمقاتل عند نقطة واحدة ،، أن لا تنازل عن المعنى. هنا، لا يُقاس النصر بما ننجو به، بل بما لا نسمح بسقوطه فينا ، وهنا، كما هناك يوم وقف القليل في وجه الكثير، نعرف أن التاريخ لا يُكتَب بعدد الواقفين، بل بثباتهم، ولا يُحسم بقوة السيوف، بل بوضوح الجهة التي تقف فيها الروح.
لهذا، حين يُقال إن الجنوب محاصر، نبتسم…
فالحصار الحقيقي هو أن تُحاصر الروح داخل جسدٍ خائف، ونحن كسرنا هذا القيد منذ زمن ،، الجنوب يقف حيث يجب أن يُختَبَر المعنى، وكربلاء لم تنتهِ هناك، لأنها كلما وُجد من يرفض الذلّ عارفًا، ويواجه القتل ثابتًا، تولد من جديد… لا كتاريخ، بل كحقيقة تمشي على الأرض …
عباس المعلم - كاتب سياسي
( جنوب لبنان )