كتب الصحفي الأستاذ علي عبادي:
مقالات
كتب الصحفي الأستاذ علي عبادي: "مفاوضات الناقورة والتصعيد "الإسرائيلي"، مساران لايلتقيان".
31 كانون الأول 2025 , 20:51 م


لفترة طويلة، كان لبنانُ وسوريةُ مرتبطَيْنِ بمصيرٍ واحد، بينما كانت الضغوط الأميركيةُ و"الإســـرائيـلية" منصبّةً على فصلهما، في أوج المحاولات خلال تسعينيات القرن الماضي لإحداث خرق يتيح الاستفراد بكلّ منهما، ولا سيما بلبنان.

اليوم بعد إسقاط سورية وضمّها إلى المعسكر الأميركي، نجح الأميركي و"الإســرائيـلي" في إحداث مسارين داخل المسار اللبناني نفسه: يتحدث الـ.ـعـ..ــدوّ بثقة عن فصل المفاوضات في الناقورة عن عـــ.ـمـلـيـاته الحربية في الأراضي اللبنانية، ويردّد مسؤولون لبنانيون هذا الأمر وراء العـدوّ من دون اعتراض أو تحفّظ، كأنه أمر طبيعي: تفاوضٌ وقتال على سطح واحد في الوقت عينه، وفق قواعد ومعايير يمليها الاحتـ ـلال على طاولة المفاوضات وفي الميدان.

تستسلم الدولة اللبنانية لهذا المنطق الـ.ـعـدواني، مُعْرضةً صفْحًا عن حجم التنكيل اليومي بحق مواطنيها وممتلكاتهم، وتمتنع عن أي ربط بين استمرارها في المفاوضات ووقف الـ.ـعـدوان الجوي والبري على أراضيها.

سلَّمتْ الدّولةُ اللبنانيةُ مسبقًا بضعفها وعجزها عن تقديم أي مطلب أو تحقيق أي مكسب، ما يجعل المفاوضات خسارة محقَّقة قبل أن تصل إلى خط النهاية.

منذ أن طرأ تغيير على تركيبة لجنة وقف النار "الميكانيزم" وإدخال ممثل سياسي إليها، لم تعد وظيفة اللجنة مجرد الحديث عن وقف إطلاق النار، وهو لا يطبَّق إلا من الجانب اللبناني فحسب، بل أصبحت اللجنة تبحث عن مستقبل العلاقة بين الجانبين. وهذا ما نلمحه في تصريحات الفريقين، وإن كان الجانب "الإســـ..ـرائيـلي" أكثر جرأة في التعبير عن آماله في تطـ..ـبيع اقتصادي، ابتداء من المنطقة الحدودية، كمدخل لاتفاق ثنائي أوسع.

ويمكن أن نلاحظ ملامح التحول الحاصل في الموقف الرسمي اللبناني في ما يأتي:

1. تخلّى لبنان عمليًا عن حقه في إثارة الانتـ..ـهاكات "الإســـ..ـرائيـلية" سواء من خلال لجنة "الميكانيزم" أو في المحافل الدولية. وتمرّ الانتـ..ـهاكات "الإســـ..ـرائيـلية" المتمادية لوقف النار من دون أي موقف رسمي تقريبًا، وأصبحت الحجة الشائعة "مش كلّ اعتـ.ـداء لازم نطلّع بيان!". ويعكس هذا العجز عن إصدار موقف كلامي تنصلًا من أية مسؤولية عن متابعة ما يتعرض له المواطنون اللبنانيون وممتلكاتهم على يد جيش الاحتـ ـلال، وبات هناك نوع من التطبُّع مع الاعتـ.ـداءات "الإســـ..ـرائيـلية" كأمر واقع يجب التعايش معه إلى حين التوصل إلى اتفاق يرضي الطرف المعتـ.ـدي.

2. تحوَّل الجيش اللبناني إلى طرف مسؤول عن التحقّق من الادّعاءات "الإســـ..ـرائيـلية" عن وجود أسـ..ـلحة في القرى الجنوبية؛ في منازلها أو في أوديتها وسهولها، بينما لا يوجد أي تعهد من جانب الـ.ـعـ..ــدوّ لإيقاف ممارساته التي توقع شهـ..ـداء وجـ..ـرحى وخسائر مادية جسيمة.

3. ثمة انسياق مع الذرائع الأمنية "الإســـ..ـرائيـلية" يتعدى الجانب الميداني إلى المستوى السياسي، من خلال تبني السردية "الإســـ..ـرائيـلية" على لسان بعض المسؤولين (وزير الخارجية نموذجًا) وتبرير التوجّه "الإســـ..ـرائيـلي" للتصـ..ـعيد والقول إن جُلّ ما تستطيع الحكومة اللبنانية فعله هو العمل على "تحييد المرافق العامة" و"تقليل الأخطار المحتملة التي قد تطال البنية التحتية الحيوية" في حال شن "عـ.ــمليـ.ـة عسـ.ـكرية واسعة" ضدّ لبنان. وأضحت المعادلة القائمة: "إســـ..ـرائيـل تحتفظ بحق الاعتـ.ـداء، بينما يقتصر دور لبنان على تحييد المرافق العامة" و"تقليل الأخطار". وفي هذه الحالة، تتّخذ الحكومة اللبنانية وضعية الحياد، بدلًا من أن ترفع الصوت وتتّخذ موقفًا صلبًا لوقف هذا التغول على أمن لبنان، على الأقل لاكتساب ثقة المواطنين الذين تدَّعي رعاية شؤونهم.

4. الأخطر في هذا المجال هو القبول اللبناني الضمني بمبدأ فصل المفاوضات عن استمرار الـعـدوان "الإســرائيـلي". فهذا الفصل لا يشكّل فقط سابقة خطيرة واستقالة عـ.ــمليـ.ـة للدولة من مسؤولياتها في حماية مواطنيها، بل يمثل رفعًا للغطاء السياسي الرسمي عن أمن اللبنانيين، ولا سيما أولئك الذين يتعرضون للاعتـ.ـداء يوميًا. كما يسمح هذا المنطق لكيان الـ.ـعـ..ــدوّ باستخدام الضغط العسـ.ـكري أداةً تفاوضية، من دون أن يتحمل أي كلفة سياسية، فيما يُطلب من لبنان الاستمرار في التفاوض وكأن شيئًا لا يحدث على أراضيه.

مع التطورات الأخيرة، تدخلُ المفاوضات بين الجانبين اللبناني والصهـ..ـيوني في الناقورة مرحلة جديدة، لا يمكن فصلها عن التحولات الأوسع في الإقليم، ولا عن إعادة ترتيب الأولويات الأميركية- "الإسرائيـلية" في لبنان والمنطقة. ويمثل لقاء نتنياهو - ترامب محطة للاستقواء وزيادة الضغوط على لبنان والجبهات الأخرى المفتوحة في المنطقة، الأمر الذي يستدعي تحصين الموقف اللبناني لدفع المخاطر الآتية، بدلًا من تقديم المزيد من الإغراءات المتمثلة بالتنازل عن مطلب وقف النار فورًا وانسحاب جيش الاحتـ ـلال.

ومن دون شك، يستفيد الـعـدوّ من الإنقسام اللبناني حول جملة من القضايا ومن ضمنها النظرة إلى كيفية مواجهة المخطّطات "الإســـ..ـرائيـلية"، وهذا الأمر بالتحديد يشجّعه على تشديد سياساته والتلويح بالتصـ..ـعيد. كما يستفيد من الدعم الأميركي المفتوح سياسيًا وعسـ.ـكريًا، وهو الأمر الذي يؤثر بصورة جلية على الحكومة اللبنانية التي تتعامل مع التوجّهات الأميركية بوصفها قدَرًا لا يمكن الفكاك منه، وقد تَرجمت ذلك بقرارات 5 آب/ أغسطس الماضي وبتصريح رئيس الحكومة مؤخرًا بشأن انتقال خطة نزع السـلـاح إلى شمال الليطاني، من دون انتظار أي التزام "إســـ..ـرائيـلي" بموجبات وقف النار.

ويتضح بعد الجولة الثانية من اجتماعات الناقورة بنسختها "المدنية" أن تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني لم يخدم هـ.ـدف منع التصـ..ـعيد، بل إنه يكيّف المفاوضات مع جدول أعمال جديد تُمسك "إســـ..ـرائيـل" بمِقوده، فيما يتحول لبنان الرسمي إلى راكب لا يعرف وجهته. وستكشف الأسابيع المقبلة إن كان لبنان مهتمًا بالخروج من هذا الدور إلى فاعل يحدد مساره الذي يؤمّن المصالح الوطنية الكبرى، أم أنه سينصاع لمعادلة تُفرغ السيادة من مضمونها وتترك المواطن اللبناني تحت رحمة تهديد دائم. وهنا محك الاختبار الحقيقي لشعار "استعادة قرار الحر ب والسلم".