بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
إنها يدٌ صهيونيةٌ لا شك، خبيثةٌ بلا جدالٍ، سواء كانت إسرائيلية الهوية أو أمريكية الجنسية، أو أداة دنيئة مستأجرة محلية، فهما وجهان لقاتلٍ واحدٍ وعدوٍ مشترك، يحملان ذات الأهداف ويؤمنان بنفس السياسات، وكلاهما ينظر إلى إيران على أنها العدو الأول والخطر الأكبر، وكلاهما يتطلع إلى تفكيك برنامجها النووي، واستهدافها كدولةٍ وثورةٍ، ونظرية وفلسفة، واختراقها كشعبٍ ومجتمع، وتفكيكها كبنية ونسيج، وكلاهما يعمل ويخطط، ويتحالف ويتآمر للنيل منها، والالتفاف عليها، والقضاء على قوتها، وإجهاض تطلعاتها، وتبديد أحلامها وإفشال مشاريعها، وقد عملوا الكثير للوصول إلى أهدافهم، وخططوا طويلاً للنجاح لكنهم فشلوا، واستعانوا بكل شياطين الأرض لتحقيق مآربهم لكنهم خابوا.
لا أحد غيرهم فرح باغتيال العالم النووي الإيراني المسلم محسن فخري زاده، وسعد بمقتله، واستبشر بغيابه، ورحب بتصفيته، وغرد مهنئاً باغتياله، اللهم إلا حلفاؤهم والمتعاونون معهم، وأنصارهم ومن يخاف عليهم، الذين رأوا في فخري زاده كفاءة علمية، وطاقة عقلية، وقدرة تصنيعية، وشعروا أن طموحه يهددهم، ونبوغه يخيفهم، وقدراته ترعبهم، ونجاحه يربكهم، وانجازاته تفسد مخططاتهم وتعطل برامجهم، فقد وصفه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قبل أكثر من سنتين، أنه أخطر شخصية إيرانية، وأكثرها أهمية في الدولة الإيرانية، وأنه وراء تطوير قدراتها العسكرية وأبحاثها العلمية، وأنه المسؤول عن برنامجها النووي.
إن إسرائيل هي من قتلت العالم النووي الإيراني المسلم، كما قتلت من قبل عشرات العلماء المصريين والعراقيين والفلسطينيين والسوريين، الذين نبغوا في مختلف العلوم النووية والفيزيائية والكيميائية والرياضية، ممن كان من الممكن أن يكون لهم شأنٌ عظيمٌ ومستقبلٌ كبيرٌ، فما كان من حكوماتها إلا أن كلفت جهازها الأمني الموساد بتعقبهم وتصفيتهم، وملاحقتهم وقتلهم أينما كانوا، فأطلقت على بعضهم الرصاص وقتلتهم، ودهست آخرين وسحلتهم، وسممت بعضهم وشنقت آخرين في غرفهم، وأغرقت آخرين وأسقطت طائراتهم، وغيبت بعضهم في سجون سريةٍ، أو أخضعتهم لقوانين تراقبهم وأنظمة تقيدهم، وما زالت أجهزتها الأمنية تعمل بصمتٍ، وتلاحق بدأبٍ، وتتعقب علماءنا وتتربص بهم في كل مكان.
إنها إسرائيل لا غيرها التي قتلت العالم الفلسطيني المهندس فادي البطش في ماليزيا، الذي نبغ في الهندسة الكهربائية، وكانت له مشاريع كبيرة وانجازاتٍ ضخمة، رأى الإسرائيليون أنها تخدم الشعب الفلسطيني، وتساهم في تعزيز المقاومة وزيادة قوتها النوعية، فاغتالوه بصمتٍ وهربوا، ونفذوا عمليتهم ولم يعترفوا، ولكن آثارهم بينة، والأدلة عليهم كبيرة، والشواهد كما السوابق تؤكد أنهم قتلوه واغتالوه، كونه فلسطيني يحلم بالعودة، ويخطط للنصر، ويتطلع إلى التحرير، ويؤمن بالقوة، ويعتقد بالقدرة، فرأوا تصفيته أولى لهم، وأدعى لأمنهم وسلامتهم، ومستقبل مشروعهم ووجود كيانهم.
ولأن إيران تشكل خطراً وجودياً حقيقياً على كيانهم فقد استهدفوها بعدوانهم، وتآمروا عليها بمخططاتهم، وقتلوا فخري زاده وربما غيره من قبل، وقد ينجحون في اغتيال غيره من بعد، ولكن إيران الدولة والجمهورية الإسلامية الثورة، لا يفت في عضدها مقتل عالمٍ أو غياب قائدٍ، أو رحيل زعيمٍ وخسارة مفكرٍ، ولا يضعف قوتها استهدافٌ واغتيالٌ، أو تفجيرٌ وعدوانٌ، فالثورة لديها أجيالٌ تتابعُ، وأفكارٌ تتواصلُ، وعهودٌ تتواصى، ووعودٌ باقيةٌ لا تنتهي إلا على أعتاب النصر وساحات الفخر، مهما سالت الدماء وكثرت التضحيات، وعظمت الخسائر وزادت المحن والابتلاءات.
ما كان للإسرائيليين أن يقدموا على هذه الجريمة النكراء لولا الغطاء الأمريكي، والضوء الأخضر الذي منحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لهم، فقد أعلن وإدارته منذ أن دخل البيت الأبيض رئيساً استهداف الجمهورية الإسلامية في إيران، ومعها كل قوى المقاومة في كل مكانٍ، وقد استهدف أم القضايا العربية والإسلامية بقراراته العدوانية، فوقف مع الكيان الصهيوني ضد الحقوق العربية الفلسطينية في أرضهم ووطنهم، وأعلن الحرب على كل من يساندهم ويؤيدهم، ويقف معهم ويؤازرهم، ولعل استهدف فخري زاده لأنه ينتمي إلى معسكر المقاومة وينتسب إليها، ويضع كل خبراته بين أيدي المقاومين في فلسطين ومن أجلها.
لن تتوقف "إسرائيل" عن استهداف علمائنا، وقتل عظمائنا، وملاحقة مفكرينا، وتصفية مبدعينا، سواء كانوا حملة فكرٍ أو أصحاب قلم، علماء أو فنانين، رسامين أو كاريكاتوريين، قادةً أو مسؤولين، عسكريين أو سياسيين، طالما أنهم ينتمون إلى معسكر المقاومة ويؤمنون بها، ويعملون في صفوفها، ويضحون في سبيلها، فالكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية ومن حمل فكرهم وتآمر معهم، يخشون كل من يحمل فكر المقاومة في قلبه، ويعتنقها سلاحاً في صدره، ويستخدمها بندقيةً أو قلماً، ريشةً أو كلمةً، مختبراً أو معملاً، ويصوبها نحوهم قاصداً هزيمتهم والنيل منهم، وساعياً إلى غلبتهم والانتصار عليهم.
لا يفل الحديد سوى الحديد، ولا تحد السلطة إلا السلطة، ولا يرد الباغي إلا بالقوة، ولا يصد العدوان إلا بالشدة، ولا يكون العدل إلا بالقصاص، ولا تستوي كفة الميزان إلا بمثل الأوزان، ولا يفرح المؤمنون إلا بالنصر، ولا يستبشر المقاومون إلا بالثأر، ولا يطمئن الشهداء إلا بالانتقام، ولا تهدأ نفوسهم وتسكن أرواحهم إلا بردٍ نوعيٍ يردع العدو ويؤلمه، وثأرٍ يلجمه ويوجعه، وانتقامٍ يعلمه ويؤدبه، فهل تعجل مقاومتنا بردٍ يروي غليلنا ويشفي نفوسنا، ويذهب أحزاننا، ويسكت آلامنا، ويدمي قلوب أعدائنا ويوجعهم، ويفجع نساءهم ويؤلمهم، ويبكي رجالهم ويقعدهم، ويخرس قادتهم ويخزيهم.
بيروت في 28/11/2020