كتب حليم خاتون:
٣٣ يوما، و٣٣ عاما...
٣٣ يوما، هي المدة التي حاول فيها الكيان تدمير المقاومة الإسلامية في لبنان، في تموز ٢٠٠٦.
لم يُرد العدو يومها الإكتفاء بتغيير المعادلات على الأرض؛ معادلات استطاع فيها حزب الله تحقيق ردع دفاعي حقيقي، عبر تفاهم نيسان الذي حمى القرى اللبنانية
من اعتداءات دون أن تستطيع حكومات لبنان في جمهوريتي ال٤٣ والطائف فعل شيء غير البكاء والنحيب، في أروقة الأمم المتحدة وما يُسمى زورا، بالمجتمع الدولي.
٣٣ يوما كانت كافية لإرسال جيش الاحتلال إلى محاكمات انتهت بتطيير رؤوس كبيرة كان على رأسها قائد الجيش نفسه.
أُنشئت لجنة فينوغراد(وف) لمحاولة فهم ما جرى وكيف استطاع بضعة آلاف من مقاتلي حزب الله إلحاق هزيمة نكراء بأقوى جيش في الشرق الأوسط، تقف وراءه أكبر دول العالم في التكنولوجياوالقوة النارية.
وبرغم إصرار سمير جعجع وسامي الجميل وأشرف ريفي وأحمد فتفت وكل "قرطة ١٤" على رفض الاعتراف بانتصار المقاومة، وتبرعهم العلني والمجاني
في محاولة النيل من هذا الانتصار، سقطت في الكيان كل الرؤوس التي قامت بالهجوم على لبنان.
على رأس هؤلاء، كان رئيس الحكومة أُولمرت، الذي توّعد بإنهاء حزب الله خلال أيام، ووزير دفاعه پيريتز الذي كان توعد السيد نصرالله بأنه سوف يجعله يتذكر دوماً اسم هذا الوزير الذي انتهى هو وحزبه في مزبلة النسيان.
٣٣ عاماً مرّت على تدنيس وزير حرب العدو يومها، أرييل شارون، للمسجد الأقصى واندلاع أكبر انتفاضة عرفتها فلسطين منذ سقوط الضفة والقطاع في أيدي الصهاينة بعد حرب ٦٧.
خرج الشعب الفلسطيني، ليس فقط اعتراضاً على هذا التدنيس، ولكن انتقاما لمسيرة تحرير، لم تكن على مستوى الآمال الشعبية؛ مسيرة انحرفت عن خط الكفاح المسلح حتى وصلت إلى هزيمة اجتياح لبنان سنة ١٩٨٢.
مرّت هذه المناسبة العظيمة، تقريبا دون ذكر، في معظم الإعلام العربي، ربما باستثناء قناةالميادين.
ما سبب تجاهل هذه الانتفاضة؟
هل هي كثرة المناسبات عند شعب يكاد لا يمر يوم في السنة دون حدوث مأساة أو ردّ بطولي على آخر استعمار استيطاني غربي، بتواطئ دولي، على هذا الكوكب.
من شبه المؤكد أن ما قام به الشعب الفلسطيني يومها، كان انتقالا رائعا من الهزيمة إلى المقاومة الشعبية العارمة.
لماذا يتم الإهمال إذا؟
الأكيد أن معظم الإعلام العربي، الخاضع لمال المُطبعين العرب، والذي ينتمي إليه معظم الإعلام اللبناني، لا يريد أن يُعطي الشعب الفلسطيني حَقّه في المجد وشرف المقاومة.
لكن ماذا عن الإعلام الآخر؟
صحيح أن منظمة التحرير الفلسطينية أودت بهذه الانتفاضة إلى نهايات مُعيبة.
صحيح أن الجناح اليميني في المنظمة ركب موجة الانتفاضة وفعل بالضبط ما فعله أنور السادات مع حرب تشرين ٧٣.
بعد الانتصارات الأولى لحرب تشرين، حيث نجح الجيش المصري في عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف، في ما يُشبه معجزة عسكرية بكل ما في الكلمة من معنى، وحيث استطاع الجيش السوري اختراق كل جبهات وقف إطلاق النار والوصول إلى مشارف طبريا؛ ( حَدّثني أحد الرفاق من ال ٤٨، أن المُستوطنين بدأوا بالتهافت على مرفأ حيفا بما خفّ حمله وغلا ثمنه،
لركوب سفن الهرب من الكيان المُوشك على السقوط. بالنسبة لهؤلاء، كانت هذه نهاية الكيان، ونهاية الحلم الصهيوني).
يومها، قامت أميركا بإنشاء جسر جوي لمدً الكيان بآخر ما أنتجته المصانع الأميركية والغربية.
لم تتأخر الولايات المتحدة عن المشاركة المُباشرة بالحرب.
ولأن الأنظمة العربية، ومن بينها أنور السادات، لا تملك أُفقا ثوريا كماكانت القيادة الفيتنامية، ولأن هذه الأنظمة، هي أساسا تابعة لأميريكا والغرب، بدأ الانكسار في ثغرة الديفريسوار في سيناء.
وبدلاً من القضاء على القوات التي دخلت خلف خط الهجوم كما يُفترض بأي عقل عسكري أن يفعل، وهذا ما طالب به رئيس أركان الجيش المصري يومها الفريق الشاذلي، فقد السادات السيطرة على أعصابه، وكأي جبان وتابع، سمح بالفوضى أن تدّب في الجيش الذي بدأ تراجعات غير مدروسة حوّلت الإنتصارات الأولى إلى ما يُشبه هزيمة.
دخل السادات في مفاوضات ليس فقط لوقف إطلاق النار، بل أيضا للانسحاب نهائيا من ساحات الشرف واستبدالها بأحد أكثر اتفاقات الذل العربية في الزمن المعاصر،
إتفاقية كامب ديفيد.
وبفعلته تلك، تسبب بانهيار الجيش (الثاني) السوري، الذي راح جنوده بالفرار من ساحات المعارك، ما مكّن الصهاينة من قلب الأمور وإعادة الإمساك بالأمور، فتحول الانتصار إلى هدنة بطعم الهزيمة.
ما فعله أنور السادات، أعاد فعله، بكل أسف، ياسر عرفات.
صحيح أن الانتفاضة كانت عفوية، ولكنّ الصحيح أيضاً، أنّ المؤمنين بالكفاح المسلح، كانوا على ارتباط بالداخل المحتل.
بدل أن يستغل أبو عمار هذه الروابط لتجذير الانتفاضة ونقلها إلى مستويات نضال أعلى، ركبها ووجّه شراعها صوب مفاوضات أوصلت الشعب الفلسطيني إلى ما يُشبه كامب ديفيد.
إنها مأساة أوسلو.
كامب ديفيد، جرّدت مصر من عمقها العربي وانزلتها من كل مواقع القيادة ليس فقط في العالم العربي، بل عن زعامة أفريقيا ودول عدم الانحياز أيضا.
بتسليمه كل أوراقه إلى أميركا، قام السادات باستسلام كامل أدى فيما أدى إليه، أن تُصبح مصر جمهورية موز يتحكم بها آبي أحمد في إثيوبيا، ويلعب بمصيرها أمثال ابن سلمان وابن زايد، بعد عز عاشته مصر الخمسينيات والستينيات.
يومها كانت مصر فعلاً لا قولا، أم الدنيا.
كانت القاهرة من عواصم التأثير في العالم.
من لا يذكر صفعة السفير المصري لسفير بلجيكافي الأمم المتحدة،عقب اغتيال الزعيم الوطني الكونغولي باتريس لومومبا.
كذلك فعل أبو عمار،
بدل أن تكون انتفاضة الأقصى ومن بعدها انتفاضة الضفة مدماكاً بانتفاضات كبرى تؤدي إلى ما أدت إليه انتفاضات جنوب لبنان وبقاعه.
لقد تسبب أوسلو في تسليم فلسطين بالكامل الى السلطات الصهيونية، ومن خلف فلسطين كل العالم العربي، حيث سقطت كل الخطوط الحمر التي كانت تحميها القضية الفلسطينية.
لقد ساهم أوسلو بضرب الذاكرة الفلسطينية في الصميم.
لم يعد الكثيرون يتذكرون أيام فلسطين المجيدة، ولا بطولاتها وبطولات روّادها.
جعلنا أسلو لا نتذكر ولا نذكر سوى الهوان والذل الذي كان من المفروض أن تنهي زمانه انتفاضات هذا الشعب الذبيح.
رغم ذلك، ورغم محمود عباس، الوريث الشرعي للإستسلام الذي أوصلنا إلى اوسلو،
فلنتذكر ابطالنا، وأطفالنا في كل فلسطين... ولكن بالأخص أبطال الضفة الذين يتعرضون اليوم لما تعرض له فلسطينيو ال٤٨.
سلب ونهب وإذلال، سببه عدم إنهاء عقيدة المهادنة التي بدأت قبل أسلو، ولم تنتهي مع أسلو.
ليس فقط انور السادات، ولا ياسر عرفات، ولا حتى محمود عباس.
لا زال الكثير من القيادات الفلسطينية، بكل أسف، لم يصلوا بعد إلى يقين الثورة والكفاح المسلح.
اسألوا جبل عامل، والبقاع الغربي.
اسألوا الويمبي، والضاحية وخلدة وجامع عبدالناصر وصيدا...
اسألوا أحمد قصير والآلاف المؤلفة من قافلةالاستشهاديين.
فلسطين ليست أقل من هذه البقاع، المشكلة، هي في فقدان القيادة المؤمنة الثورية.
ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد إلا بالقوة.