فلسطين تقبض على جذورها كما تقبض على الجمر؛ لأنها تمقت الاحتلال ولن تسمح بأيّ تغيير إلاّ بما يُتيح لها استمرارية الحياة والبقاء والصمود أمام المغتصب وأذنابه، وسلوكها هذا على مدار سبعين عامًا ونيف يشبه منجم عتيق يملؤه الغرور حين يرى موادّه سبائك وقلائد تُبهر الناظرين بعد صناعتها، وفي الوقت نفسه تأبى على نفسها إلاّ أن تبقى شامخة وأن تبقى المنبع الذي يملأه الثرى والقِدَم والفخر.
فلن يؤثّر عليها التطبيع ولا الخيانة فقد اعتادتها، ولكنها تدمن في الوقت نفسه الكرامة والصمود ورفض انتزاع أرضها وعرضها ولو بقيت وحيدة حتى آخر قطرة دماء من شعبها العظيم..
وهنا نقتبس مقولة المتنبّي بتصرّف، ليس تطاولاً عليه أبدًا بقدر ما هو توكيدًا لمن يدمن الكرامة ونقول:
"وما المقاومة لاسم فلسطين عيبٌ، ولا الخيانة فخرٌ للعروبة"..
ومن حقّ فلسطين أن تحافظ على أرضها وتراثها التليد، ومن حقها أيضًا أن تنفض تراب مغتصبيها والمطبّعين على أرضها والمتاجرين بها على مدار سبعة عقودٍ ونيف، ومن حقها كذلك أن تكون مستعدّة لصناعة تاريخ مشرّف يُضاف إلى تاريخها العتيد والمحفور في الجذور، وصمود شعبها ومقاومته (فقط) هو ما سيجعلها تتذوّق الحاضر والمستقبل بلسان خبير بالنكهات..
وحينها سيأخذ العرب الخارجون من عباءة شرفها، والمتنكّرون لرحم أرضها، سيأخذهم الندم وربما الحنين حين ينظرونها باحترام الصامدة المبجّلة، وحينها حتمًا سيقولون "لا بدّ من فلسطين وإن طال السفر، وإن طالها التطبيع"..
فلسطين تحمل الإنسان رغمًا عنه إلى فخّ التأمّل، فلا تأخذه إلى حبّها من أول نظرة فقط، ولكنها تبعث إشارات غامضة وخطيرة أيضًا، تمهيدًا إلى حبٍّ عاصف وتاريخي لا يرتضي أنصاف الحلول، ولا حتى الحلول المؤقتة، وبذلك فهي تجثم على "الحيّز السيكولوجي" الإنساني وحدوده الإقليمية، تاركةٌ إيّاه بين خيارين لا ثالث لهما وأحلاهما مرّ، فإمّا (الصمود وإمّا الصمود)، حتى لو لم تكن تتنعّم بهوائها وترابها، فيكفينا ويكفيها حينها حرارة الوجد وإن أضنانا البُعد؛ لأنها ستُبقينا أسرى لمرارة التعلّق ورهاب الانفصال، فهي بلد تتجادل مع نفسها قبل أن تتجادل معنا في حبّها، وتتركنا مضطربين في عصفنا الذهني كما هو عصفها..
فلسطين بلد خبيرة ولديها قدرة فائقة على التحمّل والاحتمال، كما أنها قادرة على تحمّل غموض المشهد بالدرجة ذاتها التي بإمكانها إحداث الغموض للآخر.
وتنوّعها البيئي النادر ما بين البحر والسهل والجبل، وإطلالتها البهيّة على بحورٍ ثلاثة، وما في باطنها من هدوء وضجيج في آنٍ واحد، وفي زحامٍ وفراغ في الوقت نفسه، كلّ ذلك وأكثر كان لها توطئة موفّقة لاحتوائها تنوّع فكري وعقائدي وإيديولوجي واجتماعي وثقافي وسياسي نادر، الأمر الذي يُذهلنا عند قراءته على الورق، فكيف يكون الشعور إذًا إن كانت المشاهدة على أرضها مباشرة، فلا عجب من مطامع الجميع بها، حتى لو كانت بناياتها منخورة برصاص الاحتلال الغاشم الغاصب الحاقد، ولكنّ كلّ ما حلّ بها من خراب ما زال يُصدِر (تحذيرًا) لأيّ من تساوره نفسه للتعدّي على مقدساتها أو ذرّة من ترابها؛ لأن حبّ فلسطين وتنوّع سكانها ومناخها وطبيعتها مكتوبة بجيناتها هي قبل جينات شعبها العظيم..
فلسطين الماجدة والفاتنة مصنوعة بدماء شهدائها ومزيّنة بالحجارة، فخلقت ذاتها بذاتها، فهي على بساطتها إلاّ أنها مُغرقة في التعقيد لتُقنع الآخرين بضرورة الوجود، ومهارة الصمود، والاستمرار لحماية الحدود..
ومن يُمعن في تفاصيل فلسطين دومًا يغرق، فحذاري من دهشة لقائها وغصّة وداعها..
أما بقية الحكاية فسيرويها أبطال فلسطين. فهل عرفتم الآن لماذا يحبّ "الشرفاء" فلسطين ؟؟!! وهل فهمتم أيضًا سيكولوجية الحبّ لفلسطين؟؟!!
وننهي هنا بكلمات "محمود درويش" ونقول (( عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ: عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين. سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ.))..
في حبّ فلسطين وفي سيكولوجية فلسطين حتمًا ودومًا سيكون لنا من هذا الحديث تحليلٌ آخر وقصص كثيرة وبقايا لا بقية واحدة فقط...ودمتم....
دة.عصمت حوسو: رئيسة مركز الجندر (النوع الإجتماعي) للإستشارات النسوية والآجتماعية والتدريب