كتب حليم خاتون:
نهاية لبنان، أم نهاية سايكس بيكو ...
في مقالة غير قصيرة، تساءل الكاتب سامي كليب عن مصير لبنان، عبر ربط هذا المصير بالقوى التي حملت أو تحمل برامج أو أجندات أو رؤى محددة لهذا البلد.
الحقيقة، هي أن كل هذه القوى التي ذكرها الكاتب هي بشكل من الأشكال نتاج هذا البلد، وهذه المنطقة، تؤثر وتتأثر بكل ما دار، وما يمكن أن يدور.
الأكيد، أن النظام اللبناني مات، وشبع موتاً منذ سبعينيات القرن الماضي.
صحيح أن للحرب اللبنانية
أبعادها المرتبطة بالصراعات الشرق أوسطية، لكن الأساس هو بنية النظام اللبناني نفسه.
كانت إصلاحات فؤاد شهاب هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه نظام لبنان التابع للرأسمالية العالمية، دون أن يكون هو نفسه نظاماً رأسمالياً متكاملا.
النظام الرأسمالي الكلاسيكي في النصف الأول من القرن العشرين، هو نظام آدم سميث الذي تطور في أوروبا من رحم النظام الإقطاعي، في ثورات برجوازية لم تكن دائماً دون إراقة الدماء.
النظام الرأسمالي الأوروبي اعتمد على إنتاج الأرض، في بداية تكوُّن الرساميل قبل أن يتحوّل الى الصناعة، فيما سُمي يومها بالثورة الصناعية.
ولكي يكون هناك إنتاج زراعي مُعتبر وتكوّن رساميل تؤدي لقيام صناعة ثقيلة، يجب أن تكون لدى هذا البلد مُقوّمات قيام دولة، مقوّمات قيام اقتصاد.
وكما يتصارع الأفراد على الأسواق، كذلك تتصارع الدول.
بشكل من الأشكال، هي شريعة الغاب، كما هي عند الأفراد، كذلك هي عند الدول.ولذلك يستشرس الغرب في منع وجود دول في الشرق لها مقوّمات بناء دولة.
إن اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، هو أحد أهم الدلائل على انسداد أفق التطور للنظام القائم.
في بلد مثل لبنان، يُمكن بناء فنادق، شق طرقات، افتتاح مقاهٍ وملاه...
باختصار، يمكن بناء اقتصاد جانبي، أو هامشي؛ اقتصاد لا يحتاج إلى قوّة عسكريّة لحمايته وحماية مصالحه.
اصْطُلِحَ على تسمية هذا الاقتصاد باقتصاد الخدمات، وإن كان في الحقيقة اقتصادَ الاستهلاك المحض.
أذكر أن صديقتي أيام الدراسة سألتني: هل صحيح أنّ في بيروت، يوجد بين المحلّ والمحلّ؟
فأجبتها بالإيجاب.
لكنها عقّبت:
"إذا كان كما تقول، فهذا يعني أنّ معظم الشعب اللبناني هو من التجار،فمن يزرع؟ ومن يعمل في المصانع؟
هذا هو لبنان الذي مات منذ السبعينيات.
اندلعت الحرب بين واهمَيْن اثنيْن: اليمين الذي كان من الطبيعي أن يكون معظمه مسيحياً، لأن نظام المتصرفية أيام العثمانيين ونظام الانتداب الفرنسي سهّلا للمسيحيين تأسيس معظم الشركات التجارية التي تحولت مع الوقت إلى مجموعات احتكارية؛ هذا اليمين لم يرَ في الحرب غير محاولة المسلمين لانتزاع السلطة من المسيحيين بمساعدة الفصائل الفلسطينية.
في الجهة الأخرى، كان هناك "يسار" غير مُكتمل الوعي، خلط الحابل بالنابل؛ فلا هو قدّم برنامجاً ثوريّاً للبنان والمنطقة، ولا هو استطاع التحرّر من التبعات الطائفية الموجودة بقوّة على الأرض.
لذلك تميّزت هذه الحرب الأهليّة بالعُقْم السياسي الناتج عن عقم الأطراف المتحاربة نفسها.
وبرغم وجود تيّارات ماركسية مختلفة في الحركة الوطنية اللبنانية، ظلّ برنامج هذه الحركة الإصلاحي بعيداً عن أي تحليل عميق للوضع اللبناني المرتبط، شئنا أم أبينا، بالوضع العام للمنطقة، وكأن بالإمكان تحرر لبنان دون تحرر المنطقة كلها.
لم يكن بإمكان دول اتفاق الطائف فعل أي شيء مُستدام.
قَزّم المجتمعون الأزمة إلى المستوى الطائفي، وكأن كل المشكلة هي في هيمنة المسيحيين على النظام.
أُعيد تقسيم النظام بين المسيحيين والمسلمين.
ولأن النظام غير المنتج بقي هو نفسه،
نظام استهلاك دون توقف، ودون آلية لإنتاج الرساميل، تم ابتداع طرق مختلفة لاستقطاب الرساميل من الخارج ولو بكلفة عالية، تمثلت بالفوائد.
وبما أن الرساميل لم تُضخّ في مشاريع إنتاجية تعيد إنتاج وتكوين الرساميل،
وقعنا في المحظور
(الإفلاس).
عندما يعطي لبنان فوائد على الدولار وصلت أحياناً إلى ٨٪، هذا لايعني أنه يشتري كل مئة دولار ب١٠٨ دولارات، بل إذا حسبنا الفوائد مع فوائد الفوائد، نجد أن المئة دولار تم شراؤها بعد ثلاثة عقود بأكثر من ثلاثمائة دولار.
السؤال إذاً، ليس عن موت هذا النظام من عدمه؛السؤال هو عن كيفية وإمكانية إعادة تعويم هذا النظام.
بكل أسف، لا زالت كل القوى السياسية بدون استثناء، تدور في الحلقة المُفرغة نفسها، وكأن إعادة توزيع السلطات على الطوائف هو الحل.
في الوقت الذي يجب أن يرى الجميع أن كل المشكلة هي في هذا التوزيع الطائفي للسلطة.
إذاً، الوجه الأوّل للمشكلة هو في النظام الطائفي، مهما تغيرت النسب بين الطوائف.
برغم معرفة كل اللبنانيين لهذا الوجه الأول من مشكلة لبنان، بما فيهم الأستاذ سامي، يتم التركيز على الوجه الآخر للمشكلة، مشكلة الشرق الأوسط.
شئنا أم أبينا، نحن مربوطون بهذه المشكلة.
شاء جماعة ١٤آذار أم لم يشاؤوا، نحن والسوريون والفلسطينيون موجودون في نفس الوضع.
عندما نتحدث عن إيجاد اقتصاد منتج في لبنان، نكون في الحديث النظري.
بالتأكيد، إذا وُجدت الرساميل، تُمكن زيادة الإنتاج الزراعي ومن ثم الصناعي، ولكن ماذا عن التصريف؟
ماذا عن الأسواق ؟
إذا كانت الدول الأوروبية عاجزة عن الدفاع عن إنتاجها دون استعمال قوة الوحدة الأوروبية،
هل يستطيع لبنان الصمود في الأسواق؟
ما حصل عندنا، منذ السبعينيات وحتى هذا اليوم، لا يجب فصله عن كل ما عاشته هذه المنطقة، منذ الحرب العالميةالأولى
وسايكس بيكو إلى الانتداب وتأسيس الكيان، إلى الحروب العربية الصهيونية، إلى كامب ديفيد ووادي عربة وأسلو،
وصولاً إلى الحلف العربي الصهيوني الجديد؛ كل هذا
موجود منذ أكثر من قرن في العقل الاستعماري الغربي.
عندما عُقد مؤتمر كامبل للدول الإستعمارية لدراسة
استراتيجية دفاع هذه الدول عن مصالحها،
تم تحديد ثلاث حضارات يُمكن أن تُهدّد هذه الدول،
١- الحضارة الصينية،
٢- الحضارة الهندية،
٣-والحضارة الإسلامية العربية.
فعلت الدول الإمبريالية المستحيل، لتقسيم وتخريب هذه الحضارات.
أفلتت الصين ،وتتبعها بخطىً سريعةٍ الهند، فيما نحن لا زلنا تحت السيطرة. بل يزداد وضعنا سوءاً بفضل تبعية الأنظمة الحاكمة الذليلة والكاملة لمعسكر أعدائها.إن أي طرح لا يرى الترابط الكامل وغير القابل لأي انفكاك بين التحرّر الاقتصادي والتحرّر الوطني والقومي، هو محض هراء.
الفرق بين الأمبرياليات وبين الأعراب، هو أن الغرب يبني استراتيجياته
على مدى قرون، مع الكثير من البراغماتية، في حين لا ترى الشعوب العربية أبعد من أنفها، وفي أحسن الأحوال تستطيع بعض القوى الوطنية والقومية، ومنها حزب الله، رؤية الواقع ومحاولة البناء عليه لبضعِ سنين لا أكثر.
إنّ دراسة تاريخ المنطقة يرينا، بما لا يترك مجالاً للشّك، أنّ الأمبريالية لم ولا ولن تسمح لنا بأي تحرّر، لا سياسي ولا اقتصادي بالتأكيد.
للقضاء على ثورة أحمد عرابي في مصر، تحالفت انكلترة ونظام الخلافة العثمانية الشبيه بأنظمة العصر الحالي العربية.
وللقضاء على محاولة ملك مصر والسودان محمد علي إعادة توحيد وبعث الأمة، اجتمعت أساطيل انكلترة وروسيا، وبروسيا
(المانيا)، والنمسا وهنغاريا والخلافة العثمانية.
للقضاء على عبدالناصر، تحالفت انكلترة وفرنسا وأميركا وإسرائيل، بتعاطف من كل الدول الغربية، وتواطؤٍ من الإتحاد السوفياتي وحلف وارسو.
وللقضاء على صدّام حسين ( رغم كل مساوئه)
جمعت أميركا تحالفاً دولياً شيطانيا، تماماً كما يُمكن أن تفعل إذا أحسّت مجرد إحساس، أنّ أياً من أتباعها، لديه نوايا أن يكبر أكثر من المسموح به.
ينتهي الاستاذ سامي كليب بأن الغرب سوف يلجأ إلى أحد خيارين:
١- إما الحرب.
٢- وإما سياسة الإفقار والعقوبات.
والحقيقة هي أننا نعيش الآن الخيار الثاني.
نحن موجودون فعلا في العقوبات والإفقار.
ومعهما التهديد الدائم بالحرب.
ما العمل؟
هل سوف يكون مصير حزب الله كما مصير من سبقوه من أحمد عرابي، إلى جمال عبدالناصر، دون ذكر صدّام، لعدة أسباب لعل أهمها عدم وجود أي ذبذبة حتى اليوم في المسألة القومية عند حزب الله؟
لكن، ومع كل الثقة بالتوجه الوطني والقومي للحزب، علينا أن نعترف بأن حزب الله لم يصل بعد إلى اليقين القائل بأن الحرب مع الغرب والإمبريالية واقعة لا محالة، وأنّ ما يجري في اليمن هو طلائع هذه الحرب التي سوف تصل إلى لبنان حتما.
حزب الله لا يستطيع إلا أن يصل إلى التحرّر الاقتصادي الاجتماعي، حتى ولو آمن بما يُسمى
بالنظام الحرّ، لسبب واحد على الأقل: أن الإمبريالية لن تسمح بأي تحرّر سياسي وطني أو قومي.
بل إن الجبهة المقابلة تتوضح كل يوم أكثر، وفيها من الأعراب من هم أشدّعلى المؤمنين أذىً من اليهود.