كتب الأستاذ حليم خاتون:
حوالي أربع ساعات قضى معظمها السيد حسن نصرالله في إعطاء الناس صورة أكثر وضوحاً عن المقاومة، عن سلاحها بالتأكيد، عن علاقاتها العامة مع القوى الأخرى والدول الأخرى؛ عن إيران؛
لكن أهم شيء عن أخلاق المقاومة وثوريتها.
لم يجد السيد صورة تعبِّر عن أخلاق وثورية المقاومة، أكثر من الحديث عن عملاقين سقطا في ميدان الشرف والكرامة:
قاسم سليماني والمهندس.
هذه المرة، لم يخرج السيد في خطبة حماسية يحتاجها جمهور المقاومة أكثر مما تحتاجها المقاومة نفسها.
صحيح أن حديثه عن جهوزية المقاومة وأحدث ترسانتها الصاروخية أثلج صدور شعوب المقاومة وزاد من قلق الصهاينة، لكن هدوء الحديث، سلّط الضوء على الجانب الآخر لقائد المقاومة، جانب القائد الإستراتيجي الذي يخطط ويبني بهدوء للمستقبل.
اعتاد الناس على خطب حماسية للسيد، تُلهب وتُلهم في النضال، فإذا بالسيد ليلة أمس لاعب شطرنج من أعلى درجات الأستذة.
اعتاد الناس على قائد عسكري يقودهم في الميدان، فإذا هو ليلة أمس، راسم خطط المعارك قبل وقوعها.
عندما يتحدث السيد عن عجز الكيان وعن الأحزاب التي شاخت، يقفز إلى الذهن فورا السؤال التلقائي،
وماذا عن المقاومة؟
هل شاخ حزب الله؟
تتذكر صور الشيخ راغب والسيد عباس والحاج رضوان، لقد استشهدوا جميعا في عز الشباب والحيوية.
هذه هي ثورة المقاومة الحقيقية.
وها هو السيد والشيخ نعيم، وغيرهما من قادة المقاومة، وقد غزا الشيب رؤوسهم ولحاهم.
فهل شاخوا؟
لعبة الشطرنج، اسمها في الأصل، الشيخ مات.
والشيخ في اللعبة هو الملك، أو القائد.
عندما يُقتل، تنتهي المباراة بفوز الفريق المقابل الذي نجح في القتل.
يقول ابن خلدون في مقدمته: إن الدول والمجتمعات والكيانات، مثلها، مثل الأفراد؛ تُولد، وتنمو، وتكبر وتشيخ وتمرض وتموت.
إنها سنة الحياة.
هذا ماعشناه ورأيناه، بصعود أمبراطوريات ودول عظمى، وسقوطها بعد حين.
فهل ينطبق هذا القانون على الكيان الصهيوني؟
هل ينطبق هذا القانون على المقاومات؟
المنطق، منطق الأمور وتسلسلها، يقتضي الاعتراف بأنّ هذا القانون
كوني (universelle).
هذا القانون ينطبق على كل الكيانات.
نعم لقد شاخ الكيان الصهيوني.
لقد لفت السيد نظرنا إلى حقيقة اجتماعية تاريخية لم نكن أعرناها الاهتمام قبلاً.
أجل، ما قاله السيد صحيح مئة في المئة.
ليست فقط أحزاب الكيان هي من نمت وكبرت ثم شاخت وهي تموت.
الكيان نفسه، وُلد، ونما، وبلغ أقصى قوته في النصف الثاني من السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات.
ومنذ ذلك التاريخ الأخير وهو يعاني.
يتشبث بالبقاء في الأعلى. لكن الضربات عليه تتوالى.
حربه على لبنان سنة 1993، انتهت بلكمةٍ على رأسه.
حرب نيسان 1996، كانت لكمةً أخرى أكثر إيلاما، خاصة مع تفاهم نيسان الذي جرّد الكيان من أحد أهم عناصر قوته، قتل المدنيين في لبنان.
إذا كان تحرير سنة 2000، إعلاناً صريحاً بفوزالمقاومة بالنقاط، فإنّ حرب 2006، كانت أوّل لكمةٍ تُوقع الكيان أرضا.
لم يعد الكيان في قمة قوته ومجده.
ولولا تدخل الحكم المُرتشي بين الحين والآخر، لكان السقوط المدوي للكيان حصل، ومنذ زمن ليس بالقصير.
ماذا عن المقاومة؟
هل سوف تشيخ؟
منطق ابن خلدون العلمي يقول: إنها لابُدّ أن تشيخ يوما.
هل تشيخ المقاومة عندما تشيخ قيادتها؟
المنطق العلمي يقول: إن قيادة المقاومات لا تشيخ عندما يغزو الشيب رؤوس ولحى قادتها.
المقاومات تشيخ عندما تشيخ عزائم قادتها.
لقد شاخت منظمة التحرير الفلسطينية عندما شاخت عزيمة قادة المنظمة.
لكنّ إرادة الحياة الحرّة عند الشعب الفلسطيني أعادت إنتاج قيادات جديدة ذات عزيمة شابة.
المقاومات لا تشيخ، طالما حرب التحرير مستمرة.
وعندما تشيخ عزائم قادة، ترميهم المقاومات، وتبعث من قلب الجماهير قادة آخرين، وهكذا إلى أن يتمّ التحرير.
بعد ذلك، وفقط بعد ذلك، تتحول المقاومات إلى جهاز حكم إداري بيروقراطي، قد يتجدد أحياناً، ولكن في النهاية سوف يشيخ ويموت، لتستنبط حركة حياة الشعوب أنماطاً أخرى قابلة للتجدُّد والحياة.
أمسِ، رأينا قائداً حكيماً، غزا الشيب لحيته، لكنه في قمة شباب التخطيط والمقاومة والعطاء.
أمسِ تأكدنا، ولم يكن الشك ساورنا، أنّ قائد المسيرة، قائد سفينة التحرير، لا يسيطر فقط على خطّ سير السفينة؛
بل يسيطر حتى على حركة البحار والمحيطات.
أمسِ، ورغم خيانة المُطبِّعين، قال لنا السيد:
أساساً، هؤلاء لم يحاربوا العدوّ يوماً.
هؤلاء كانوا دوماً أتباعاً لسيدهم المُعادي لكلّ آمالنا وأمانينا الوطنية والقومية.
قال لنا:
هؤلاء كانوا عالةً على حركة التحرروالتحرير.
ذهابهم العلني إلى معسكر أعداء الأمة نظّف صفوف الأمّة.
أمس قال السيد كلمته ومشى:
واليوم نقول له، نحن معك، ولأنك أهل لها.. سوف نطالبك دوماً بالمزيد.