كتب الأستاذ حليم خاتون:
يحب الإعلامي رفيق نصرالله ذكر معركة دخول العثمانيين إلى المنطقة وموقف فخرالدين المعني
يوم المعركة الفاصلة.
يومها التقى الجيشان العثماني والمملوكي في معركة مَن سوف يحكم العالم الإسلامي لعدة قرون آتية.
كانت أوروبا غارقة في عصور الظلام والتخلف،والخلافة العباسية ليست سوى صورة هشّة لخلفاء
يبايعهم أو يخلعهم مجموعة من الغلمان الذين جلبتهم الخلافة من الأصقاع البعيدة التي وصل إليها الفتح "الإسلامي"، وجعلت منهم جنوداً للخلافة، صبيان من عبيد الأصقاع ما لبثوا أن صاروا قادة جيوش الخلافة، يتلاعبون بها كما يشاؤون.
لم يكن الخليفة العباسي في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي سوى ألعوبة في أيدي هؤلاء الغلمان - المماليك، يبدلونهم حسب أهواء أكثر قادة هؤلاء المماليك قوة.
وحين قويَت شوكة العنصر السلجوقي "التركي"، وأراد السيطرة المباشرة على السلطة وعدم الاكتفاء بالحكم من وراء الستار، جمع الجيوش لإزاحة بقية العناصر والقوميات من الطريق.
أرسل كل من الجيشين العثماني والمملوكي الى كل الأمراء والولاة يطلبونهم إلى الحرب، كل جانب ضد الجانب الآخر..
يومها مشى أمير جبل لبنان، فخرالدين المعني بجيشه،ووقف على تل يُشرف على أرض المعركة، ليرى الى أيٍّ من الجانبين سوف تميل الكفّة.
وما أن انجلى الغبار عن تلك المقتلة العظيمة،وظهراقتراب العثمانيين من النصر، حتى اندفع فخرالدين بجيشه لينضمّ إلى المنتصرين ويقطف ثمناً لنصر لم يساهم به مطلقا.
هذا ما يسميه اللبنانيون، شطارة...
إنها عقلية الخسّة والتبعية التي لا يزال لبنان قائمًا عليها إلى يومنا هذا.
ولكي لا نظلم كل اللبنانيين ونضعهم جميعاً في سلّة الخِسّة تلك، علينا الاعتراف أنّ قسماً آخر من سكان هذاالجبل،اتخذ لنفسه ما اصطلح على تسميته بنظرية "أبو ملحم" لتبويس اللحى.
أبو ملحم هذا هو نسخة طبق الأصل، أكثر تطورا، من نسخة فخرالدين.
أبو ملحم هذا، هوتلك الشخصية التوفيقية، التي كان كل همّها تدوير الزوايا وعدم اتخاذ أية قرارات حاسمة، ومراعاة كل الفئات، بما في ذلك اللصوص والفاسدين .
المهم عند أبي ملحم هو "السلمية" الغارقة في مستنقع الاستسلام الذي لاقعر له.
لقد ظل لبنان لعدة قرون من الزمن تتنازعه هاتان العقليتان:عقلية فخر الدين، وعقلية أبو ملحم؛ والعقليتان لا تؤدّيان سوى إلى ما نحن عليه اليوم.
وإذا كان من شعارٍ سياسي لهاتين العقليتين، فهو:"مين ما أخذ أمي، أناديه يا عمّي".
أو بوضوح أكثر:"قوة لبنان في ضعفه".
ظلّت هاتان العقليتان تسيطران على مصير البلد، حتى إلى ما بعد سقوط مفهوم الدولة الذي لم يستطع ابداً الخروج منها إلى يومنا هذا.
من الأمثال العربية التي تنطبق على معظم الأحزاب والقوى اللبنانية، هو مثل النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، متوهّمةً أنّ الصياد لا يراها، طالما هي لا تراه.
ورغم مرور لحظات ثورية في تاريخ لبنان، وبروز أسماء سبقت عصرها من ثورة الفلاحين ومطالبة طانيوس شاهين بإقامة نظام جمهوري حين كان عصر الظلام قد غادر أوروبا واستقر في عالمنا العربي والإسلامي، وصولاً إلى يومنا هذا ودعوة السيد موسى الصدر إلى إقامة دولة بنظام مدني
هو أقرب إلى الدولة العلمانية، وتجاوز السيطرة الطائفية والمذهبية.
في كل مرّة، كان يخرج علينا "أبو ملحم" ما، ليعيدنا إلى الحظيرة؛ تارة تحت شعار: "لا غالب، ولا مغلوب"، وتارة أخرى تحت شعار: "الديموقراطية التوافقية".
بالتأكيد، لا أحد ينكر أهمّية هذين الشعارين في الحفاظ على السلم الأهلي؛
لكن نفس هذين الشعارين أدّيا إلى دخول الدولة في حالة موت سريري، لتعذّر إجراء أي إصلاح ذي معنى.
الجمهورية في لبنان ليست على الإطلاق نظامًا جمهوريا.
البرلمان في لبنان لا دخل له بالنظم البرلمانية، وهو أقرب أن يكون مجلس ملل وعائلات وعشائر.
أمّا الديموقراطية، فهي "حارة كل مين إيدو إلو".
حتى الأحزاب الثوريّة تتوقف عن أن تكون ثوريّةً، تحت شعارات وعقلية "أبو ملحم".
بدل أن يقود الحزب الشيوعي ومنظمة العمل وحزب العمل الاشتراكي الحركة الوطنية، إلى بناء نظام ما بعد الإقطاع والرأسمالية المتخلفة بالمفهوم العلمي للكلمة، سُلمت القيادة إلى أحد الإقطاعيين الذي جمع بين الإقطاع والرأسمالية والفلسفات الهندية، في معزوفة ظاهرها إشتراكية طوباوية، وباطنها فلسفة "أبو ملحم"، مع قليل من العنف الطائفي لاستعادة السلطة من المسيحيين الذين جاؤوا البلاد فلاحين ومزارعين، وانتهوا إلى تطييف الإمارة وصبغها بلونهم المدعوم من الغرب والفاتيكان.
وهكذا، مع إفلاس هذا النظام، أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي قدم الماركسيون برنامج "أبو ملحم"الإصلاحي، لإصلاح نظامٍ غير قابل للإصلاح أكثر مما فعل فؤاد شهاب.
ولأنّ وجود كيان غاصب في فلسطين يفرض نهجاً معيناً من الصراع، انتقلت القيادة في الشارع، شيئاً فشيئاً، من أيدي أمراء الطوائف الكلاسيكيين إلى أيدي قادةٍ أكثر جذريةً في الصراع القومي والديني.
ورغم جذرية هؤلاء التي، بفضل تاريخية الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني، أوصلتهم إلى مستويات لم يصلها لبنان سابقا، إلا أنّ هذه القوة المقاومة لم تستطع الخروج أو التحرّر من عقلية الديموقراطيّة التوافقيّة، أي عقليّة "أبو ملحم".
وإذا صدّقنا ما قاله أول أمس الوزير وئام وهّاب، فإن المقاومة قد ذهبت مع الرئيس المُكلّف، ومع ميشال عون إلى نفس عقليّة "أبو ملحم"، عبر الموافقة على ترك السلطة لجماعة أميركا.
ولأن المقاومة مصرّة على رؤية الخير في من لا خير فيهم، فهي سوف تنسحب إلى الظلّ.
يقول الإعلامي القريب جداً من المقاومة الأستاذ حسن عليق: إنّ كلام ميشال عون جاء عامّاً، وهو بالتالي لا يحتوي على سلبية تجاه المقاومة.
ومع أن الأستاذ حسن من الصداميين الشرسين في الدفاع عن المقاومة، إلا أنّ قوله هذا، ومن إذاعة النور، له معنىً واحد:
حزب الله لا يريد رؤية الانتهازية والعداء الصريح للتيار العوني تجاه المقاومة، عبر استهداف صريح لا لبس فيه للدولة المركزية في محور المقاومة.
إنّ أيّة حكومة لا يتواجد فيها وزير ملك، أو سوبّر وزير، تابع للمقاومة وله حق الفيتو على كل شيء في هذه الحكومة، يعني أنّ الحزب عاد إلى عقلية "أبو ملحم"، بالنسبة للداخل اللبناني.
إنّ أية نظرة إلى كل التركيبة الحزبية لكل القوى في لبنان، تُظهر أنّ حزب الله هوالحزب الوحيد غيرُ المُخترقِ أميركياأو بريطانيا رغم بعض الدوخة الفرنسيّة غيرالمُباركة وغير المفهومة.
إنّ كل حلفاء المقاومة، حتى ولو خضعوا لعقوبات أميركية، هم تابعون، أوعلى الأقل خاضعون للسيطرة الأميركية.
الجيش والقضاء والأمن الداخلي، وكل الاحزاب باستثناء حزب الله، تابعة أو خاضعة للأميركيين.
هل وصلت عدوى"أبو ملحم إلى كامل المحور؟
سؤال وجيه.
يقول السيد حسن: إنّ إيران قوية (حتى ولو لم تردّ).
لماذا قال السيد هذه الكلمة؟
هل هي لردع الأميركيين؟
أن تقوم أميريكا باستهدافٍ خسيسٍ لقائد محور المقاومة على مستوى المنطقة له معنىً واحد:
إنهم يريدون الحرب.
وأن لا تردّ إيران كما يجب أن تردّ، له أيضا معنىً واحد:
إن إيران والمحور لا يريدون الحرب.
موقف مؤسف بكل المعايير.
مقارنة بسيطة بين قوة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الستينيات، وبين قوة أي طرف في محور المقاومة، يرينا بما لا شكّ فيه أنّ المقارنة هي في أحسن الأحوال واحد إلى خمسين أو أكثر لغير صالح الجبهة الشعبية.
لماذا استطاعت الجبهة تركيع الغرب والأميركيين يومها، ولا يستطيع المحور فعل شيء اليوم.
إنها سياسة التريّث، ومراكمة القوة العديمة الجدوى.
ولست أنا من يقول ذلك.
السيد نفسه يقول ذلك، عندما يتحدث عن عدم جدوى الخسارة بالحديد والعمار.
السيد يعرف أنّ بالإمكان هزّ العالم كلِّه.
مرّةً أُخرى، إنها عقليّة "أبو ملحم "تجاه بايدن وأميركا" الأخرى"
بالتأكيد لست أنا من يرى أن هناك أميركا أخرى.
المصاب بعمى الألوان، والذي يؤمن بوجود أميركا أخرى هم قيادات في محور المقاومة.
تكريم سليماني والمهندس أسبوع أو شهر، أو حتى سنة، لا يكفي.
شعار إخراج أميركا من غرب آسيا لم يعد يكفينا.
محور المقاومة فيه من ال"أبو ملحم"عدد فوق العادة.
محور المقاومةبحاجة إلى أكثر من وديع حدّاد واحد.
إلى أكثر من سمير قنطار واحد..
إلى أكثر من أحمد قصير واحد.
محور المقاومة يحتاج إلى من يمرّغ أنف أميركا، كل يوم وكل ساعة وكل ثانية، بتراب العراق وسوريا ولبنان واليمن والجزيرة العربية وقطر والبحرين والمغرب، وكل بقعة يتواجد عليها جندي أميركي أو شركة أميريكية، أو حتى رمز أميركي.
عندما سقط راغب حرب والسيد عباس كنّا لا زلنا في أول الطريق.
اليوم نحن في قمّة وكان يجب أن تُزلزل الأرض تحت أقدام أميركا وعملاء أميريكا.
ارجعوا الى تاريخ الجبهة الشعبيّة، ترون أن "أبو ملحم" لم يتواجد هناك يوما.
ارجعوا الى تاريخ الثورات،تجدون أنّ أميركا ليست إلا نمر من ورق سمحنا نحن له بأن يزأر ويقتل قادة عظاماً من دون أن يدفع الثمن.