كتب موس عبّاس :
تعلّمنا في كتاب التاريخ اللبناني القديم والذي لا زال هذا يُدرّس حاليّاً أنّ ما يُطلَق عليه اليوم "دولة لبنان"أو الجمهوريّة اللبنانيّة ، كان عبارةً عن مجموعة من الدويلات الممتدّة على ساحل البحر الأبيض المتوسّط وأنّه كانت تسمى المدن الفينيقية وأشهرها :
تريبولي أو طرابلس حاليّاً
بيبلوس أو جبيل حالياً
بيريت أو بيروت
صيدون أو صيدا الحاليّة
صور والتي هي أقدم المدن الفينيقية .
كانت كل واحدة من تلك المدن عبارة عن دولة مستقلّة بحد ذاتها عن الباقي المجاور لها تربطهم علاقات تجاريّة.
كانت واقعاً "كونفدراليّة المدن الفينيقية".
في كتابها "العالم القديم" كتبت المؤرّخة الأمريكية "دوروني ميلز" متحدّثةً عن فينيقيا ، والصادر عام 1923 في "نيويورك"ما نصّه:
"“لم تكن حكومة فينيقيا قوية ومركزية مثل مصر أو آشور. كانت المدن الفينيقية مستقلة نسبياً ومرتبطة ببعضها البعض بكونفدرالية ضعيفة، وفي حالة هجوم خارجي، كان على كل منها الدفاع عن نفسها من دون مساعدة الآخرين”.
وهذا فعلاً ما كان يحدث في ذلك التاريخ السحيق الذي يتفاخر فيه بعض شعراء وكتّاب من ممن عاشوا في القرن العشرين.
وهذا فعلاً ما كان يحدث زمن الإحتلال التركي وبعده الإحتلال الفرنسي وليست الإجتياحات المتتالية والحروب الصهيونية والتي كان آخرها حرب تمّوز /آب 2006 ضد لبنان الحالي ليست ببعيدة ولم تنساها ذاكرة من يعيشون على مساحة الجغرافية اللبنانية.
من قاتل الفرنسيين أطلق عليه الذين يفتخرون بأصلهم الفينيقي تسمية (العصابات) وتآمروا مع الإحتلال الفرنسي ضدّهم.
وهذا تماماً ما حدث في الإجتياحات الصهيونية المتتابعة حيث أنّ بعض من يحملون زوراً الهويّة اللبنانية أطلقوا نفس تسمية الصهاينة على من قاتل جيشهم
"المخرّبين" وبعد التحرير وبعد هزيمة الصهاينة في آب 2006 غيّروا التسمية وأصبحت "الميليشيات". ولم يتورّعوا أبداً عن القتال إلى جانب الصهاينة وارتكابهم المجازر تحت حمايتهم ، ولا زالت دماء مجزرتي "صبرا وشاتيلا" 1982 لم تَجُفْ.
نعم كانوا عندما يهاجمهم عدوّ كلّ مدينة تدافع عن نفسها أو تستسلم للغزاة بينما المدن الأخرى تنتظر دورها
وتضيف ميلز :
“تعرضت المدن الفينيقية للهجوم من وقت لآخر من قبل الإمبراطوريات الكبيرة في تلك الفترة وكانت تخضع للمحتل.
وقد فضّلت أن تعيش تحت حماية قوّة أجنبية قوية على أن تقاوم، وبالتالي تخاطر بالتدمير. كان احياناً يحدث تمرد بعد الاحتلال، لكن الفينيقيين كانوا عموماً يعترفون بسلطة القوة المحتلة وبغض النظر عن مشاعرهم، يدفعون الجزية المفروضة عليهم ويواصلون العيش بطريقتهم وعاداتهم من دون تغيير”.
وهكذا ، لم تمرّ فترة في تاريخ لبنان منذ الإنتداب الفرنسي لم يخضع للوصاية المعلنة أو المُقنّعة، فمن الوصاية الفرنسيّة وصولاً إلى الصهيونية التي عيّنت بالقوّة رئيسا جمهورية للبنان وهما بشير وأمين الجميّل وبعدها السوريّة والأمريكية والسعوديّة.
وتتابع ميلز:
ان الفينيقيين “كانوا يحبون الترف والراحة وكانت مدنهم مراكز للعيش الفاخر.
— من كونفدراليّة المُدُن إلى كونفدراليّة الطوائف:
فيما عُرف باسم "الميثاق الوطني" بين أوّل رئيس للبنان المُستقٍلْ عام 1943 " بشارة الخوري"الذي كان يمثّل الإقطاع السياسي المسيحي الذي كان يعادي العروبة وأوّل رئيس وزراء في عهدِه "رياض الصُلح" والذي كان يمثّل الإتّجاه السياسي المُسلم الذي كان يفضّل الوحدة مع سوريا اتّفق الطرفان على أنّ لبنان "ذو جه عربي". الأمر الذي عَنى حينها "توافق على كيان لقيط" دون قناعة أي طرف بوجهة نظر الطرف الآخر ، وإنّما فُرِض عليهما التوافق على زَغَلْ في فيدرالية طائفية ،وكانت تلك الوقعة الكذبة الكُبرى"زواج ماروني بالإكراه" ودليل الإكراه الأحداث التي عصَفت في الكيان اللبناني بعد ذلك مباشرةً ليس أقلّها : إعدام "أنطون سعادة" زعيم الحزب القومي السوري المُنادي بوحدة الهلال الخصيب وما تلاه من اغتيال رياض الصُلح في عمّان. ولاحقاً الحدث كان ما سُميَ ثورة 1958 ونزول المارينز الأمريكي في بيروت.
وجاءت الحرب الأهلية 13 نيسان 1975 فأعادت تقسيم لبنان دويلات مذهبية وحزبية أقامت إداراتها المدنية الخاصّة بها،
واحدة في الشمال وثانية في قسم من جبل لبنان وبيروت الشرقية وثالثة في بيروت الغربية تهيمن عليها فتح أبو عمّار ورابعة في جبل الشوف وإقليم الخرّوب وخامسة في الجنوب وسادسة في البقاع ، مما شكّل حينها "فدرالية الأحزاب المُهيمنة"، حتى أنّ القوى الأمنيّة التي كانت تشكّل رمزاً معنويّاً لوحدة الجغرافية الطائفية انقسمت وتوزّعت الهيمنة عليها قوى الأمر الواقع المهيمنة حسب المناطق.
وجاء فرض إتّفاق الطائف 1989 من قبل دول الوصاية في محاولة فاشلة لإعادة تكوين التعايش المشترك بين المذاهب في لبنان وجيء برئيس وزراء من خارج الطاقم السياسي المعروف أنزلوه "بباراشوت رجال المال والأعمال "لينفذ مشروعاً يُشكِّل بداية التطبيع المستقبلي بين العرب والكيان الصهيوني عن طريق الإنفتاح على الداخل والخارج و لكنّه عندما فشل اغتالوه ليعيدوا إثارة الصراع المذهبي وهذه المرّة بين المسلمين أنفسهم ونجحوا في إحداث شرخ عميق يهدّد بإشعال فتنة مذهبية بين الحين والآخر .
وعندما شنّ الصهاينة حربهم ضد لبنان بعد أسر جنديين من جنودهم تموز 2006 وقفت غالبية الزعامات السياسية والمذهبية ضدّ المقاومة وحرّضت على سحقها علناً وعبر الشاشات ، وبعضهم دعى إلى ترحيل الطائفة التي ينتمي إليها غالبية المقاومين إلى العراق وعدم السماح للّذين هُجِّروا من منازلهم من الجنوب بالعودة إليها.
ومنذ ذلك التاريخ تعاظم الشرْخ وازداد الإنقسام أفقيّاً وعاموديّاً داخل الطوائف أنفسها وبينها، وأصبحت بعض الزعامات في تلك الطوائف خاضعة بشكل كامل لإرادة الخارج الأوروبي والأمريكي والعربي وبعضها الآخر يُعلِن تحالفه مع دول أخرى في حلفٍ مُقابل ومُناوئ، وعندما حاول قسم من تلك الطوائف مجتمعةً الثورة الصادقة على الواقع السياسي والإقتصادي والطائفي،
تدخّلت القوى التي ترفض وحدة الشعب ووحدة مطالبه لتحرِف تلك الثورة التي كانت ربما الفرصة الحقيقية للتغيير فأجهضتها في مهدِها.
وهكذا يتبيّن أنّه لا وجود لمجتمع لبناني ولكن مجتمعات متنافرة لا تتوافر فيها إمكانية التوافق وليس لديها الحصانة ضدّ "ڤيروس الطائفية والمذهبية"المتغلغل إلى الأعماق حتى بين من المفترض فيهم أن يكون وعيُهمْ الثقافي والديني يردعهم عن الإنغماس في بؤرة ذلك الموروث المقيت.
لبنان اليوم هو الكونفدرالية المُستتِرة خلفَ إدّعاءات وطنيّة كاذبة.
ولا بدّ من سائلٍ ما هو الحلّ ؟
والجواب :
إذا كان لا بدّ من الإستمرار في وحدة الجغرافيا الحالية للكيان اللبناني فلا بُدّ من إعادة كتابة الدستور اللبناني على أساس وطني لا يُراعي أي منحى طائفي أو مذهبي يتنافى مع الإندماج الحقيقي في دولة مدنيّة تقوم بعد انتخابات رئاسية ونيابية لا قيود طائفية فيها لا للرئاسات ولا للنوّاب .
إنّ النظام القائم حالياً هو أسوأ بكثير من نظام 1943 الذي تمّ تطبيقه لحوالي نصف قرن والذي كان عبارة عن نظام فيدرالية الطوائف ، لأنّ ما سُمّيَ بوثيقة الوفاق الوطني 1989 فشِلت في تحقيق أي وفاق وطني بل على العكس كرّست بالممارسة كونفدراليّة الطوائف.