كتب موسى عبّاس:
يبدو إنّ أسلوب صنع القرار السياسي والإداري في لبنان لا بد أن ينتج مثل هذا الجمود والتخبط المحيط بظروف تشكيل الحكومة وبشكلٍ أصبح مألوفاً ليس للبنانيين وحدهم وإنّما لجميع المتابعين ، خاصّةً إذا كان من يُكلّف بتشكيلها ليس لديه الجُرأة على تجاوُز الجهة أو الجهات المتعددة العربية والأجنبية والتي يعتبِر أنّه لا بُدّ من أخذ موافقتها واسترضائها لأنّها إذا لم تتكرّم وتُنعِم عليه بالرضا والقبول قد تُحوّل حُكمه إلى مأزق كبير له ، فتثير في وجهه مشاكل مُتعدّدة ليس أقلّها المظاهرات التخريبية المعادية له ، ورُبّما تُكلّف أقرب المُقربين منه بتولي تلك المَهمّة لتُفهِمَهُ أنّها مستاءة منه ولا ترضى بالأسلوب الذي يتعاطى به مع من تعتبرهم ألَدّ أعدائها على الساحة اللبنانية، طبعاً المقصود هنا مملكة آل سعود بالتحديد.
والأغرب في الأمر أن رئيس فرنسا التي تعتبر نفسها الراعي الدولي للبنان يسعى بدوره لإسترضاء وليّ عهد المملكة الذي سبق له أن أجبر الرئيس سعد الحريري وبالقوّة على الإستقالة من الريّاض.
وما حدث في السابق ويحدُث حالياً من أزمات سياسية وأمنيّة متتابعة منذ الإعلان عن تطبيق وثيقة الطائف على الأقل ولا سيّما منذ تولّي الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة ، ما يحدث هو دليل واضح وجلِيّ على أنّ السبب هو وجود أزمة نظام سياسي تكرّست بعد ذلك التاريخ ولكنها تعود بجذورها إلى أساس نشأة كيان الدولة اللبنانية والتي بدورها كشفت عن عمق وتجذُر النظام الطائفي في "المجتمعات اللبنانية" تاريخيّاً.
ومن المؤكد أن الصيغة اللبنانية ذات التركيبة الطائفية التي أنتجت الحرب الأهليّة في العام 1975 والتي استمرت خمسة عشر عاماً كذلك أنتجت ضعفاً في الولاء الوطني، الأمر الذي أدّى إلى سهولة التدخلات الخارجية إقليميّاً ودوليّاً، إضافةً إلى الصراع مع الكيان الصهيوني وما نتج عنه من تداعيات أدّت إلى ظهور المقاومة الوطنية ومن ثمّ الإسلامية التي لم يكن لها بديلاً في مواجهة الإعتداءات الصهيونية ، بحيث أصبحت تلك المقاومة لاعباً أساسياً فاعلاً ومؤثراً ليس على الصعيد الداخلي فقط وإنّما على الصعيد الإقليمي بعد الإنجازات التي حققتها عام 2000 و2006 الأمر الذي انتج تعقيدات داخلية جديدة ناتجة عن موروث ثقافي مختلف حول مسألة العداء للكيان الصهيوني ، أقلّها رفض مكونّات سياسية وطائفية حتى لمجرّد وجود تلك المقاومة حتى ولو شكّلت قوّتها المتعاظمة هاجساً ورادعاً للكيان الصهيوني الذي اعتاد أن يسرح ويمرح ويعربِد أنّى يشاء وساعة
يشاء ، إضافةً إلى العداء الشديد الذي تُكنّه لها دول خليجية تعمل بكل الوسائل للتحريض ضدّها والدفع لمحاصرتها وبالتالي محاصرة الشعب اللبناني بِكامله من جميع النواحي وفي مختلف المجالات.
ومن الواضح أنّ غالبيّة السياسيين ورجال الدين غير قادرين على إنتاج أي حلول جذرية لا للأزمة السياسية الحالية (تشكيل حكومة) ولا للأزمات الإقتصاديّة والماليّة ، لذا نرى بعضهم عاد ليستجدي التدخُل الخارجي تارةً من مجلس الأمن ليطلبَ منه وضع لبنان تحت الفصل السابع وإرسال قوّات عسكريّة لتجريد المقاومة من سلاحها وطوراً من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لنفس المهمّة، والإصرار على مثل هذه الطروحات دون حساب تداعياتها على أرض الواقع.
من جهّة ثانية ثبت أنّ ما يحدث منذ حوالي السنتين هو أمر طبيعي ناتج ليس فقط عن عجز وثيقة الطائف عن إيجاد الحلول فقط وإنّما تبيّن أنّها أدّت إلى إستشراء الفساد وإلى الإهتراء السياسي والإقتصادي وبدلاً من أن تتحكّم سلطة واحدة بإدارة البلد ، تعددت السلطات حسب مراكز القوى وتعددت معها دويلات المزارع السياسية والدينية.
وما حدث أكّد أن الأزمة الاقتصادية اللبنانية تتجاوز حتى فساد النظام السياسي إلى مشكلة هيكلية مزمنة تراجع معها الإنتاج الصناعي والزراعي اللبناني اللذان برهنا عن عدم قدرة الاقتصاد على المنافسة الخارجية
في الوقت الذي تستباح الأسواق اللبنانية من قبل منتجات خارجية مما انعكس سلباً على مجمل الإنتاج المحلّي وفي الوقت الذي تمّ التركيز فيه على الاقتصاد الخدماتي بخاصة قطاعات السياحة والمصارف على مرّ سنين طويلة ،وما إن تعرض البلد لأوّل هزّة سياسية فعلية أواخر 2019 حتى أنهار كل شيء وانكشف المستور.
إنّني أعتقد أنّ الطائفية عقّدت الأزمات السياسية والإقتصادية ومنحتها طعماً خاصاً وجعلت أمر مواجهتها تلك الأزمات الهيكلية الأساسية أمراً صعباً للغاية ، والسبب أن الفساد أصبح مؤسسة ومنظومة قائمة في جميع المجالات والقطاعات يحمي أركانه بعضهم البعض.
والملاحظ أنّ بعض الذين يسعون صادقين للتصدي للفساد يتراجع غالبيتهم عندما يتولّد لديهم شعور أنّ طائفتهم مستهدفة.
مما سبق يتأكّد أمران:
- فشل اتفاق الطائف في إحداث تغيير جذري في الواقع السياسي اللبناني خاصّةً مع عدم تطبيق أهم ما جاء فيه عن إلغاء الطائفية السياسية، وبدلاً من كونه الحلّ بات مُوَلّداً للأزمات المتلاحقة.
-عدم قدرة المجتمعات "المؤلفة من مكونات ومفاهيم وخلفيات ثقافية ودينية متعددة" على التوحُد في مواجهة أخطبوط الفساد ، والدليل ما حصل في 17 تشرين الأوّل 2019 حيث أجهضت التدخلات السياسية والإستخباريّة المحلية والخارجية حُلمْ طالما سعى غالبية الشعب لتحقيقه ، ألا وهو القضاء على نظام سياسي مهترئ متعدد الأركان تمترس خلف الطائفية منذ العام 1943، وبات واضحاً أنّ جذور المشكلة تعود إلى أساس النظام الذي شكّله الإستعمار الفرنسي.
والسؤال الأبرز والأهم :
لماذا يغيب عن اللبنانيين جميعاً مفهوم الإنتماء الشامل للوطن وليس للطائفة أو لمذهب أو لحزب؟!