كتب الأستاذ حليم خاتون:
قبل أربعة قرون أرسل فيليب، ملك إسبانيا الكاثوليكية، التي كانت أقوى وأعظم الدول يومها؛
أرسل من يقوم باغتيال ملكة إنكلترة، إليزابيت البروتيستانتية بمسدس غير مُذخّر، وسرّب إلى جهاز أمن الملكة في الوقت عينه رسالة تتضمّن
أمراً صريحاً من ملكة اسكوتلندا الكاثوليكية، والوريث الشرعي لعرش إليزابيت للقيام بهذا.
بطبيعة الأمر، وكنتيجة تم قطع رأس ملكة اسكوتلندا، ماري ستيوارت، ما أعطى الملك فيليب الذريعة لشن حرب على إنكلترة، بتهمة قتل ملكة كاثوليكية.
في لبنان، لا تختلف الأمور كثيرا.
لطالما غطّت ظواهر الأمور بواطنها.
لعل آخر صور هذه الظواهر ما يجري مع القاضي صوّان في السلطةالقضائية.
هل تعمّد القاضي صوّان ارتكاب الِاستنسابية في استدعاءاته؟
لماذا اختار حسّان دياب، وأعفى سلام وميقاتي والحريري؟
لماذا فينيانوس والخليل وزعيتر، دون كل وزراء الأشغال والمال السابقين؟
لماذا لم يستدعِ المسؤولين الفعليين في الجيش بصفة الإدعاء وليس الشهادة؟
كذلك الأمر، بالنسبة للسلطة القضائية، لم نرَ أيّ تعامل صارم ولو في توجيه اتهام بالإهمال الوظيفي لأي قاض؟
من يتابع الأقنية الأجنبية وما يقوله أهالي ضحايا المرفأ، يتوهم أن القاضي صوّان كان بطلاً أراد كشف المسؤولين الحقيقيين عن الجريمة، وأنه لاقى مقاومة من طبقة أصحاب الدم الأزرق من رؤساء ووزراء ونواب.
بينما حقيقة الأمر هي أن القاضي صوّان تعمّد اتهام من هم على غير مزاجه من المسؤولين، بغض النظر عن مدى مسؤوليتهم، فقط ليوهم الناس أنه تجرأ على الطبقة العليا ضاربا عصفورين بحجر واحد؛
من جهة، ينال من الذين لا يتوافق معهم؛
ومن جهة ثانية، يظهر بلباس القاضي الشجاع الذي تجرأ على الuntouchables، أي أصحاب الدم الأزرق، من غير القابلين للمساءلة.
لو كان القاضي صوّان يريد فعلا أن يكون بطلاً، وليس مجرّد مُدّعٍ البطولة، لكان سطّر استدعاءات لكلّ المسؤولين، ومن كلّ الاتجاهات السياسية، ومن كلّ السلطات، دون أي اعتبارٍ لا لدين، ولا لطائفة، ولا لرأي سياسي، ولا، وهذا هو الأهم، لأي مركز في الدولة، مهما علا شأن هذا المركز، اليوم وفي الأمس.
بكل أسف، لم يكن القاضي صوّان سوى من نفس عجينة البيئة اللبنانية بكلّ عاهاتها النفسية والجسدية والعقلية، فلعب على الطريقة اللبنانية رغم كل الوسخ الذي تحويه الطريقة اللبنانية.
"بطل" آخر، من مدّعي البطولة، استناداً إلى مركزه الِاجتماعي والديني في التركيبة اللبنانية، الشديدة التشوه، هو الكاردينال الراعي.
فإذا كان البطرك يريد فعلاً مؤتمراً يصل فيه اللبنانيون إلى برّ الأمان
كان عليه أن يتبنَّى دعوة السيد حسن نصرالله إلى مؤتمر تأسيسي؟
إذا فرضنا جدلاً، أنّ الكاردينال يعتبر لبنان كياناً كامل التأسيس، وكل ما يحتاجه هو فقط تطبيق الدستور، فلماذا لا ينضم إلى الرئيس برّي في الدعوة إلى مؤتمر حوار حول تطبيق الدستور؟
ثم، هل يستطيع البطرك البوح لنا عن مكنونات صدره حول أي دستور يريد؟
هل يدور الحوار حول دستور الجمهورية الأولى الذي تكرّس سنة 1943، وظلّ سائداً، نظرياً على الأقل، حتى أواخر الثمانينيات، أم يجب أن يدور الحوار حول دستور الطائف، الناتج عن سفاح قربى أميركي، سعودي، سوري؟
ثم، هل يجب الدفاع عن كل دستور الطائف، أم فقط عن المواد والمشاريع التي يرضى عنها البطرك، ورفض ما تبقّى؟
الأكيد أن الكاردينال الراعي الذي عاش فشل دستور الطائف وعقمه، ورأى ما أضافته الدوحة من معايير "ميثاقية!!"، ليس متحمّسا لإعادة التجربة، خوفاً من أن يستيقظ المارد الذي غفا في الدوحة، فيطلب إعادة تصويب بعض الأمور التي يتعلق بها الكاردينال تعلقاً شديدا، فتزيد، من وجهة نظره، الخسائر التي تكبّدها حتى الآن.
في هذا الخوف يستوي الكاردينال الراعي مع كل البطاركة والمفتين، سنّة وشيعة ودروز ًا وعلويين.
لماذا هذا الخوف عند الرؤساء الدينيين؟
ببساطة، لأن السلطة الأولى التي يتوجب إسقاطها، هي سلطة الدولة الدينية في لبنان.
وعندما يتمّ الكلام عن السلطة الدينية، فهذا لا يعني على الإطلاق الحريات الدينية التي يجب أن تظلّ في حماية الدولة، كما كلّ المعتقدات.
السلطة الدينية، الواجب تقليصها، هي سلطة رجال الدين الذين، بسبب مراكزهم غير القابلة للنقد أو التناول، يقومون بالتخريب، كما فعل البطرك نصرالله صفير، حين وضع العربة أمام أحصنة الطائف،عندما رفض تطبيق إلغاء الطائفية السياسية بذريعة نظرية"تغيير ما في النفوس قبل تغيير النصوص".
نظرية الكاردينال صفير، لو طُبِّقت في أمريكا لكان الأميريكيون من أصل أفريقي لا زالوا عبيداً في مزارع القطن. ولكانت أوروبا لا زالت في حروب دينية لا تنتهي بين الكاثوليك والبروتيستانت.
الكاردينال الراعي غير راضٍ عمّا وصلت إليه الأمور في لبنان؛ لذلك، هو يطالب بمؤتمر من أجل لبنان.
لكن هل يستطيع البطرك القول: لماذا يجب أن يكون هذا المؤتمر دولياً، وليس لبنانيا؟
طالما أن أهل مكة أدرى بشعابها، أليس من المفترض أن يتباحث اللبنانيون في ما يريدونه لوطنهم أن يكون عليه؟
ألم يرَ البطرك ماذا فعل التدويل بالعراق الذي كان علمانيا، فصارت طوائفه تتذابح بدل أن تتحاور؟
ألم يرَ كيف حوّل التدويل دولة الصومال مع كل مساوئ الديكتاتور سياد بري، إلى مناطق ميليشيوية وقطّاع طرق، وجاهلية دينية؟
هل اقتراحات البطرك من عنديّاته، أم أن دولا غربية
وعربية، لا يعجبها لبنان، وتريد خرابه، هي من يريد التدويل؟
عندما يتحدّث الكاردينال بالعموميات، ويدعو إلى الحياد على النسق السويسري، يظهر بمظهر بطل هذاالحلم السويسري غير القابل للتطبيق، لألف سبب وسبب، إلّا إذا كان الكاردينال قد استطاع فعلا تغيير ما في نفوس اللبنانيين، وآن الآوان لتطبيق نموذج الدولة العلمانية التي نريدها ونتمنّاها، للتخلص من سلطة الكرادلة والمفتين وبقية الذين سطوا على مقدرات هذا البلد ولا يقبلون تحرّره منهم وعنهم، بما فيهم نيافته.