كتب الأستاذ خضر سلامة:
تقولُ يا صديقي، أنّني أحاول أن أفقأ عين التّاريخ المدرسي الّذي نعرفه كثيراً وذلك لا يخدم الوطن ولا قصص الوطن.
فما هو الوطن وما قصته؟
دعني أحكي لك قصّةً طويلة ومملّة ربما، لكنك لن تجدها في كتب المدرسة ولا الأناشيد الوطنية ولا برامج السّياسة:
كان العام 1920، وكانت المقاومة في ما سمّاه الاحتلال الفرنسي “المنطقة الغربيّة”، وضمّ منطقة جبل عامل حتى غوطة الشّام تتصاعد.. يحكي العجائز أن موقعة كبيرة وقعت في قرية الخربة اللبنانيّة اليوم، أوقعت عشرين قتيلاً من الجيش الفرنسي وأعوانه هزّت فرنسا.
حاول الفرنسيّون أن يحوّلوا المقاومة إلى حرب طائفيّة، وأنشؤوا المثال الّذي تعلّمه الاسرائيليّون لاحقاً في تجربة جيش لحد: وضعوا ضبّاطاً مسيحيّين من قرى جبل عامل في إدارة متطوّعين محلّيّين عملاء (عُرفت بالميليشيا)، وكادت المقاومة أن تقع في الفخّ.
جرى مؤتمر وادي الحجير في نيسان 1920 على عجل، ورسم الخطوط العريضة للقضيّة وأصرّ على رفض الاحتلال الفرنسي وأفتى بحُرمة الاقتتال الطّائفي.
عندها عرف الفرنسيّون أنّ مشروع الفتنة انتهى.. جرّدت فرنسا في أيّار حملة عسكريّة بقيادة الكولونيل نيجر آمر فصيلة صور آنذاك وضمّت إلى إمرته فصيلة ارلابوس في النّبطية، دعمتها صحف بيروت آنذاك لا سيّما "لسان الحال" و"البشير،" وابتدأ القتل.
دُمّرت معظم قرى جبل عامل بالمدفعيّة، وانكفأ معظم أهل البلاد إلى شمال فلسطين، أمّا من بقي في قريته كما حدث لأهل قرية فارة، فقد عملت فيهم الرشّاشات.
قُتل الآلاف في أيّام، ولم تكن المقاومة البسيطة تملك حظوظاً كبيرة مع تخلّف الدعم العربي.. لكنها أوقعت بالاحتلال هزيمتين كبيرتين في مرجعيون بدعم عربان الجنوب السّوري، وفي كمين في قاقعية الجسر، وصمد صادق حمزة مع رجاله على طريق بنت جبيل حتى نفذت ذخيرتهم وانسحبوا.
إلا أن أشهر معارك حملة نيجر الدّموية، كانت معركة المصيلح. بعد أن انتهت حملة نيجر المكوّنة من 4500 جندي فرنسي ومعهم الميليشيا من نهب قرى خطّ ساحل صور، توجّهت إلى النّبطية، وهناك كمن لهم أدهم خنجر ومعه أقلّ من خمسين مقاتلاً: استمرت المعركة لسبع ساعات متواصلة بين البنادق القديمة والعربات الثّقيلة حتى نفاذ الذّخيرة ولم يُقتل مقاوم واحد.
من بعدها.. نُهب ما تعرفه اليوم بمنطقة جنوب لبنان تماماً ودمّرت قراه وقُتل من بقي فيه من أهله، ونتحدّث هنا عن خسائر على حجم كارثة وطنيّة، ثمّ فرض الفرنسيّون “تعويضاً” لقتلاهم وجرحاهم على أهالي القرى بمئة وخمسين ألف ليرة ذهبية جُمعت من بيع الأراضي والأملاك الشخصيّة البسيطة.
الآن، عليك أن تتخايل ما حدث لأبطال هذه القصة بعد حملة نيجر الّتي لا يدرس عنها أحد: أُعدم أدهم خنجر مع مئات من الثّوار بعدها بأشهر، واغتيل صادق حمزة.. أُبيدت عائلات المقاتلين الّذين كان يملك العسكر الفرنسي أسماءهم، أُنهك المعقل الأخير للمقاومة المسلحة في ما سيُعلن الحاكم الفرنسي عن ولادته بعدها بخمسة أشهر في أيلول 1920: دولة لبنان الكبير الّتي فرضت على المهزومين سياسيّاً شمالاً وبقاعاً وجنوباً بعد هزيمة يوسف العظمة في معركة ميسلون في يوليو-تموز وانتهاء حلم الحكم العربي.. مُحي اسم جبل عامل من الدّولة الجديدة وسمّي “جنوب لبنان.” تمّ تدمير البنية التّعليميّة والاقتصاديّة لسنوات كان ثمنها بداية نزوح قاسٍ نحو المدينة-العاصمة الجديدة. (سرّعه الاحتلال الاسرائيلي لاحقاً)
ثم أصبحت فرنسا مدرسةً في الديمقراطيّة والحريّة بل وصرنا نتضامن معها ضدّنا أحياناً.. كتبنا تاريخاً مدرسيّاً لا يزعجها، هذا وينزعج مثقّفونا حين نحكي لهم قصصاً خشبيّة كهذه، حتّى أنّ لبنان التّمام والسّلام يحتفل بذكرى إعلان لبنان الكبير دون أن يتكلم أحد عن كيف أنشئ هذا اللّبنان الكبير، مسلّمين ب”قداسة قصّة الوطن”.
لا مشكلة شخصيّة بيني وبين لبنان اليوم، فهو اليوم الوطن الّذي أعرفه وأحبّه لأن أهلي وأرضي وقبور النّاس الّذين أعرفهم وبيوتهم، هنا.. لا أكتب معترضاً على شرعيّته ولا طامحاً بوطن أكبر أو أصغر.. أنا أفتّش في التّاريخ فقط لأن آلاف القتلى في حملة نيجر الفرنسيّة عام 1920 لهم أشقاء ولا شكّ في كلّ دول العالم، لا يراد لأحد أن يقرأ عنهم.



