كتب الأستاذ حليم خاتون:
طوبى للقدّيسين... في قداستهم!
مئة عام وعام مرّت منذ تأسيس "دولة لبنان الكبير".
مئة عام وعام، وقِردَة هذا البلد يتّفقون أحياناً فيما بينهم، فلا يتركون إلابعض فتاتٍ لأغنام البيك، أو لولده، أو ولد ولده، من كل الطوائف والمذاهب والملل والعشائر والقبائل.
أو يختلفون فيُتلفون الأخضر واليابس، ولا يتركون لهذه الأغنام الشاردة، سوى الثغاء على أمعاء خاوية، تُضاف إلى الرؤوس الخاوية.
لبنان، بلد الفوازير، تفتّقت العبقرية الأمريكية،السعودية، السورية عن معجزة، أطلقواعليها اسم دولة الطائف.
دولة تسير، والرب راعيها، بهداية دستور نفس هذا الطائف العجيب.
دستور مضى عليه أكثر من ثلاثة عقود دون تطبيق، ويريد بعض "الحكماء" منّا، أن نقضيَ ثلاثة عقود أخرى، نجرِّب إن كان بالإمكان تطبيقه.
خمسة عشر عاماً، تحمّل النظام السوري التهمة بعرقلة تطبيق الطائف، وستة عشرة عاماً، تذابحت القبائل اللبنانية دون جدوى في محاولة تطبيقه.
فإذا بالكردينال الراعي يُخرِجُ أرنباً لا علاقة للرئيس بري به.
يطلب الكردينال من الأمم المتحدة رعاية تطبيق الطائف، والخوف كل الخوف أن لا يخرج علينا من أصدر قرار تقسيم فلسطين، بقرار تقسيم لبنان، فتزيد الدول العنصرية في هذا الشرق عددا:
دولة يهودية مهيمنة، دولة مارونية تابعة،
دولة سنية على شاكلة دواعش الشمال أو شاربي بول البعير،
دولة شيعية تتصارع وتُصارع إلى أن تغزو أو تُغزى.
كل هذا بينما تتشتت بين هذه الدول، بقايا اللاجئين والنازحين والمسيحيين والمسلمين، وغيرهم من الأحرار الرافضين كما رفض الشعب الفلسطيني، فيكون نيافته نقلنا من "تحت الدلفة، إلى تحت المزراب"، على وضع أكثرسوءاً وأكثر تعتيرا.
بعد أن كان لبنان بلداً ذا وجهٍ عربي، صار اليوم مزركشا بألف وجه، ليس أقلها وجه جاهلية بول
البعير، مع ليلى عبد اللطيف وشركائها.
دستور الطائف يقول: إن الذي يشكِّلُ الحكومة هو الرئيس المكلّف، من قبل أغلبية برلمانية من نوائب هذا الدهر علينا.
وأهم ما في هذا التكليف أنه أزلي، لا أفق له ولا نهاية، إلا بقرارٍ من الوكيل نفسه، أو من عزرائيل شخصياً.
نفس هذا الدستور العجائبي يقول: إن مرسوم تشكيل الحكومة لا يصدر إلا مرفقا بتوقيع صاحب الفخامة؛ فإذا اتفق الِاثنان حلّت على البلد رحمة الرب، وإلا فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
أُعطونا الإصلاح، يقول الوزير باسيل، وخذوا الحكومة... لكن مع وقف التنفيذ...
فلا هو قادر على إعطاء حكومة، ولا غيره قادر على إصلاح يمكن أن يحصل بينما الطبقة الحاكمة بكل أطرافها، تُمسك برقاب العباد وكل مفاصل الدولة والسلطات الأربعة، ومعهم بقية الغنم من هذا الشعب النائم نومة أهل الكهف.
يطالب الوزير باسيل ب:
1- قانون للكابيتال كونترول، (قانون لن ينفع بشيءٍ إذا لم يترافق بمفعول رجعي، وسلطة شعبية قادرة وعادلة وقوية:
قادرة، على الِاعتقال والمحاكمة
والمصادرة، وعادلة في الأحكام التي لا ترحم.
وقوية، في الضرب بيد من حديد، لا يفلّه لا صوّان ولا غير صوّان).
2- تحقيقٌ وتدقيق جنائي شفّاف، إلى درجة رؤية البعوضة إن هي أخذت ما ليس لها، وسميكٌ إلى درجة عدم سماع أي استرحام أو تحريم، أو وضع خطوط حمراء لا تخجل، رغم كل احمرارها.
3- قانون لاسترجاع الأموال التي نُهبت بطرق قانونية أو غير قانونية، والمتهم فيها كل من شَغَل،من بعيد أو قريب، أيَّ موقع في الجمهورية،من حاجب الوزارة أو المؤسسة إلى أعلى سلطة دينية أو دنيوية.
يُضاف إلى هؤلاء، كل من استفاد من هذه الدولة، أو عمل معها ولو بقرش تنك، من مصارف ومقاولين ومؤسسات إعلامية وغيرها... وصولا إلى الجمعيات المُسماة خيرية؛ كل خيرها هو سرقات ذهبت إلى أصحاب الحظوة من السَفَلة أولاد العالم السُفلي.
هل ما طالب به الوزير باسيل هو المطلوب؟
بالتأكيد أنّ هذا ضروري جدا ومطلوب
(necessary)، ولكنه بالتأكيد ليس كافيا،
(not sufficient).
ضروري، ولكنّه غير كاف، هذا ما كُنا نتعلمه في قوانين الرياضيات.
غير كافٍ، لأنه إذاحصل بقدرة قادر، وهو لن يحصل... فإنه غير مُصان وغير محمي، ولا أسس له ليبقى على قيد الحياة.
أمّا السبب، فبسيط جداً.
إنها تركيبة المجتمع، وتركيبة القوى والأحزاب، كل الأحزاب والقوى؛ وتركيبة السلطات، كل السلطات بلا استثناء؛
وتركيبة هذه الدولة التي أتت على شاكلة مُكوِّناتها.
لن يُمكن إصلاح هيكل في هذه الدولة وإهمال الهياكل الأخرى.
وسواء أعجب بعضهم هذاالأمرأم لم يُعجبه، فإنّ هذه المخلوطة اللبنانية سوف تظلّ مخلوطةً، من مكوِّناتٍ غيرقابلة للدمج طالما أن الدولة قائمة، على أسس دينية وطائفية وعشائرية وكل الموبقات الإنسانية.
وسواء أعجب هذا الأمر بعضهم أم لم يعجبه، فإن الدين في حالته الراهنة في لبنان، وبفضل مُعظم رجال الدين والمؤسسات الدينية التي تعاقبت على هذا البلد؛ هذاالبناء الديني المُشوه، والبعيد كل البعد عن التعاليم السمحة المفروض أن يتحلى بها، وبُعدها كل البعدعن المساواة الإنسانية بالمطلق، بغض النظر عن العقيدة، أو الجنس أو اللون أو أي اختلاف آخر.
هذا التشوه يجب أن تتم معالجته، دون أي إبطاء بإبعاد تأثيراته، على الأقل في المدى المنظور.
بناء الدولة هو فعل تفاعل كل مكونات هذه الدولة، بدون أي صفات عددية (أكثرية أو أقلية).
فلا الكاردينال يحق له التكلم باسم المسيحية، قبل أن يعود إلى المسيحية الأولى النابعة عن مبادىء السيد المسيح، فيتوقف عن التمييز بين مؤمن وآخر، ويهتم بكل الرعية، وليس فقط بمن يتبع تعاليم البيت الأبيض.
ولا المفتي، كائنا من كان، يحق له التكلم عن أي من المسلمين، قبل أن يعود إلى الإسلام المحمدي الأول الذي يقول: إنّه "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، والتقوى هنا لا علاقة لها بالعصبيات الجاهلية عند كل الأطراف بلا استثناء، والذي ينعكس بكل أسف عند جمهور أغلبه جاهل،ولو حمل أعلى الشهادات درجةً.
فالجهل بالإنسانية لا تغطيه كل الشهادات العلمية لو مهما حصل.
مرة أخرى، لا يوجد من بدّ عن الجلوس والتحاور.
وإذا كان غبطته يخشى من الصفة التأسيسية لهذا الحوار، فَلْيُسَمِّهِ حواراً دستوريا.
أما الحديث عن مؤتمرٍ ترعاه الأمم المتحدة، فهومجرد لفٍّ ودوران، لأن هذه المنظمة التابعة بشكل كبير لأمريكا، لن تجلب أي خير إلى لبنان.
همّ أمريكا والغرب والروس، وحتى الصينيين بحكم المصالح، هو دولة الكيان الصهيوني.
فإذا كان الكردينال الراعي يعتقد أن نيافته قادر على تغيير هذه المعادلة، فهذا من أحلام اليقظة التي عليه الإقلاع عنها.
والمأساة العظمى، إذا كان غبطته يعتقد بحب هؤلاء لأهل الشرق بمسيحييهم ومسلميهم، وأنه لم يرَ ما حدث في فلسطين، ولا عاش مأساة العراق، ولا سمع عن مسيحييه، ولا عن سوريا ومسيحييها.
إذا كان البطرك لم يرَ كل ذلك، فإن أحلام اليقظة عنده قد حملته إلى المريخ، وحتى اليوم لم يعد كائناً حيّاً م من هناك.
أما إذا كان رأى ولا زال مصرا، فإن إصرار شعب لبنان على التحرر عن، ومن سلطة نيافته وسلطة المفتين، هو أكثر إصرارا.