كتب الكاتب موسى عبّاس:
يعيش في لبنان بلد التناقضات ثمانية عشر طائفة متنوّعة دينيّاً وثقافيّاً وحضاريّا وسياسياً ،هذا التنوّع قد لا نجده في بلد آخر في العالم ، وبدلًا من أن يساهم هذا التنوّع في جعل لبنان متميّزاً ًونموذجاً للتعايش والتسامح على العكس أنتج خلافات سياسية أدخلت البلاد في حرب أهلية استمرّت متقطّعة لخمسة عشر سنة، وتهدّد باستمرار في انتاجها من جديد كلّما حدثت واقعة سياسية أو أمنيّة مسّت إحدى الطوائف أو المذاهب .
تهيمن وتتقاسم الطوائف أحزاب سياسية ودينيّة بدءاً من اليمين المتطرّف ( سمير جعجع وحزبه )إلى أقصى اليسار المُنحرِف عن كل ما هو يساري(الياس عطا الله وحزبه) وبعض البطاركة في الطوائف المسيحية من أمثال المطران الياس عودة) وعلى الهامش (حزب الكتائب وحزب الكتلة الوطنية)
ويقابلهم على الساحة المسيحية
( التيار الوطني الحر وتيّار المردة وبعض الأحزاب الأرمنيّة والأحزاب الصغيرة وشخصيات سياسية من أمثال (النائب إيلي الفرزلي والوزير السابق شربل نحّاس الذي أسّس حركة مواطنون ومواطنات في دولة) وغيرهم.
وعلى الساحة الإسلامية أصحاب التعصّب المذهبي الأعمى الذي لا يقبل أيّ نقاش أو جدال الذي تُمثّله (جماعة داعش والوهابية وفتاوى إبن تّيْميَة)،أصحاب مقولة:
(من التحق بنا فقد نجا ومن خالفنا فإنّ دَمَهُ وماله وعِرضَهُ مُباحٌ لنا) ومن يُسانِدهم من السياسيين ، إلى ما يطلق عليه (الإعتدال الديني) والمتمثّل بالحماعة الإسلامية وحركة التوحيد وجمعية المشاريع الخيرية الإسلاميّة وحزب المستقبل و(دور الفتوى ومجالس المذاهب عند الطوائف الإسلامية).
وعلى النقيض منهم سياسياً أحزاب اليسار (الشيوعي والقومي والبعث والناصريين)
أمّا الحزب التقدمي الإشتراكي فهو يتأرجح حسبما تميل مصلحة زعيمه وليد جنبلاط.
وحركة أمل وحزب الله اللذان يُمثلان غالبية في الساحة السياسية للطائفة الشيعية.
-كذبة التعايش
يتفاخر الغالبية من اللبنانيين في الإعلام بالتنوّع اللبناني وبأنّ بلدهم بلد الحوار بين الأديان وبلد العيش المشترك ، لكن واقعاً ينازعون بعضهم البعض في أبسط الأمور التي يشعرون أو يدّعون أنّها تمَسّ بحقوق الطائفة أو المذهب ، والسؤال الذي يُطرَح هل المشكلة في تعصّب الأفراد لهوياتهم الدينية، أم في مكان آخر؟
كثيرون ممن يبحثون في واقع المجتمعات في لبنان يرون أنّ "جزءاً من الشعب اللبناني طائفي بمعنى أنه يواجه الآخر على أساس ديني ، لكن الطائفية لا تعني بالضرورة تعصباً دينياً، بل ولاءً سياسياً وأيديولوجياً،
والدليل أنّه من الممكن إلتقاء عشرات الآلاف من مختلف الطوائف حول خطاب موحِّد ومناهض للطائفية والمذهبية، والدليل ما حدث خلال الأيّام الأولى لثورة 17 تشرين الأوّل 2019، فما حدث لم يكن وهماً ، بل كان هناك واقعاً برز خلاله خطاب يرفض الطائفية فلم تُرفع أعلام وشعارات الأحزاب وإنّما العلم اللبناني وشعار جامع أطلقته المعاناة الجامعة وهو "إسقاط الفساد والفاسدين".
ولكن الوطنية يمكن أن تكون في بعض الأحيان، الوجه الآخر للطائفية، خصوصاً أنّ تاريخ لبنان حافلٌ بالأحداث التي جعلت القومية اللبنانية تأخذ بعداً طائفياً ، كذلك فإنّ "المجتمعات اللبنانية"محكومة بتركيبة طائفية، هذه التركيبة خلقت تماهياً بين الطائفة والمذهب والأحزاب الغالبة فيها، ولا يمنع ذلك من المشاركة والتلاقي مع من ينتمون إلى طوائف ومذاهب وأحزاب أخرى طالما لا يَمَس ذلك بالمعتقدات الدينية أو السياسية، بدليل الذي حدث بعد أيّام في ثورة تشرين حين تدخّلت أطراف وأجهزة استخبارات حرفت الثورة ، الأمر الذي فرَط العَقْد دون تحقيق أي مكسب بل على العكس وقعت أحداث مؤلمة كادت تؤدي إلى فتنة وحرب أهلية.
-مُعضِلة تشكيل الحكومات:
يرى بعض المفسرّين للدستور اللبناني "أنّ المشكلة ليست في النصّ الدستوري بحدّ ذاته، بل في "اسقاط الزعماء للطابع الطائفي على معاركهم السياسية، لتبرير مصالحهم. علماً أن الدستور يمنع تخصيص أيّ وظيفة لأي طائفة، وذلك ما لا يطبّق.
حيث أنّ آخر فقرة في مقدّمة الدستور تشير إلى أنّه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، من دون تحديد نوعيّة ومفهوم هذا الميثاق بشكل واضح ، وهذا يفسَّر بأنّه "حفظ للتوازن بين الطوائف"، لكن هذا لا معنى عملي له ، الأمر الذي يؤدي في غالب الأحيان ولا سيّما عند تشكيل الحكومات أو عند التعينات حتى في مناصب دون الدرجة الأولى حيث يتمسّك كل طرف بموقفه ويحتمي ويتمترس خلف طائفته وغالباً ما يكون السبب مصالحه الشخصيّة
ومصالح الحزب الذي ينتمي إليه، وهذا يعني أنّ الذين وضعوا الدستور إمّا تعمّدوا إغفال عدم تحديد فترة سماح زمنية لتشكيل الحكومة وذلك تحت ذريعة عدم السماح لموقع سياسي أن يتحكّم بموقع سياسي آخر ينتمي إلى طائفة ثانية أو أنّ الهدف الإبقاء على إمكانية تدخُل أطراف خارجية تتحكّم بهذا الفريق أو ذاك ، وما المماطلة وعدم التوافق حول تشكيل الحكومات سوى دليل على ذلك.
إنّ منظومة الطائفية والمذهبيّة والزعامة في لبنان كرّست أعرافاً زبائنية من خلال ممارسات لا علاقة لها بالدستور والهدف فقط الحفاظ وحماية مصالحهم الشخصيّة.
إنّ النظام الطائفي اللبناني لم يكن في أيّ يومٍ من الأيّام هدفه المساواة لا بين المواطنين ولا بين الطوائف وهو مرض سرطاني خبيث غير قابل للإستئصال لأنّه هَدَف إلى توزيع غير متكافئ للإمتيازات والمكاسب والثروات الأمر الذي جاء لمصلحة الطبقة الأوليغارشيّة (حُكمً الأقلّية)المُتحكّمة بالإقتصاد والسياسة والدين ، بينما الشعب ومن جميع الطوائف يدفع باهظ الثمن، لكنّ المُستغرب والمستهجن أنّ غالبية هذا الشعب يُقاد إلى المقصلة وهو يتفرّج وكأن الأمر لا يعنيه.