كتب الأستاذ حليم خاتون:
احتفلَت أمس سرايا المقاومة اللبنانية بعيد تأسيسها الثالث والعشرين.
في الحرب الأهلية، امتزج دم اللبنانيين من كل الطوائف في سبيل إقامة لبنان وطن ديموقراطي علماني...
صحيح أن الشرقية كانت "نقية" من ذلك الخلط "الرذيل"، بنظر أمثال بشير
رغم ادعائه "المسيحية"، ورغم أن المسيح ما كان يوما إلا لكل الالوان والأجناس.
لكن بيروت الغربية كانت مزيجا جميلا، يستأهل وطن يشبه قوس قزح بألوانه المختلفة الجميلة كما أرادها الله أن تكون.
مقارنة بالوضع اليوم، ورغم كل سوداوية الحرب الاهلية، يمكن وصف حالة الشباب اللبناني يومها بالزمن الثوري "الجميل".
يتناول الكثيرون تلك الحرب الأهلية على أنها حرب دينية بين المسلمين والمسيحيين...
إلى أي مدى اتسخت تلك الأيام بكل وسخ المجتمع القبلي اللبناني الحالي، حيث صار كل مذهب في يومنا هذا، قبيلة من قبائل الجاهلية...
ولدتُ في الغربة، وكان استاذي الاول للغة العربية،
المرحوم جورج دحدوح،
وتوالت اسماء الأساتذة من الاستاذ يوسف ناصر إلى السيدة ديانا غصن إلى الأستاذ أحمد فياض ...
طيلة دراستي في المهجر، لم اعرف سوى أن الأستاذ دحدوح كان سودانيا، والباقون كانوا لبنانيين.
لم اكن أعرف أن هناك فرقًا بين لبناني وآخر.
علمني والدي، رحمة الله عليه، الصلاة... لم افكر يوما اني اختلف عن غيري من التلامذة أو المعلمين.
لم نتعلم في المدرسة اللبنانية هناك اي درس دين.
لم اعرف السبب إلا حين أرسلني والدي إلى لبنان لإكمال الدراسة.
بدل درس الدين في المهجر، كان هناك تركيز على درس التربية المدنية، ونشاطنا تركّز على تعلم الدبكة والأغاني الوطنية من أجل حفلات نهاية السنة.
هناك في المهجر، كان لبنان الوطن الواحد فعلا؛ كانت صورة لبنان الأخضر الجميل تزيّن مدرستنا...
في لبنان، بدأت أعرف أن الآخر "شي تاني".
بدأت أعرف ذلك حين بدأ الناس ينظرون إلى طريقة صلاتي بارتياب، وكأني مخلوق فضائي هبط إلى الأرض حديثا...
يومها عرفت أن هناك سنًيًا، وان هناك شيعيًا...
وعندما رمتني الأقدار في مدرسة يسيطر عليها الفكر اليميني من كتائب وأحرار وما صار يُعرف بعدها بحرّاس الأرز، عرفت أنّ في لبنان يوجد سنًي وشيعي ومسيحي، وأنّ في لبنان ايضا، يوجد بشر يحبون الناس، ويوجد خنازير، هم أدنى مرتبة في عالم الحيوان، يظنون أن الله خلق الناس أقل جودة منهم... هم الأسمى.
تماما كما يفكر الصهاينة.
في مدرسة التزمت الخطً اليميني، تعلمت الانتماء إلى رحب اليسار الإنساني.
ست سنوات بعد عودتي إلى لبنان، اندلعت الحرب الأهلية، وكان من الطبيعي أن أكون مع الإنفتاح بوجه الإنعزالية المقيتة.
كانت بداياتي، زيارات إلى مراكز الأحزاب على اختلافها، وسماع النقاشات
والنقاشات المضادّة، إلى أن ارتحت إلى رجل ثلاثيني، أو أكثر قليلا، كان ودودا، منطقيا، رغم أنه المسؤول العسكري لذلك التنظيم الصغير على محور دار الكتاب، في الشياح.
تردّدت على ذلك المركز أكثر من مرة والتقيت بالكثيرين، لكن وسام على ما اذكر، كان أكثرهم حلما بالثورة الماركسية، والوحدة العربية..
سنتان من الحرب اخَذَت معها شبابا كثيرين... لكنها اقنعتني أن لبنان يمكن أن يكون وطنا واحدا وليس غيتوات طائفية...
سنتان من الحرب اخذتْ مسؤوليّ العسكريين ابو طارق (الياس الزغبي)
ووسام (ظافر الخطيب)
سقط الإثنان ليؤكدا لي، أنا الصبي اليافع، أن بناء لبنان الوطن، ممكن.
أمس ايضا، وردّا على ما اكتبه، من مطالبات لحزب الله أن يستجيب لوجوب الثورة، وصلني من أحد الإخوة تسجيلا للسيد نصرالله يوضح فيه اسباب عدم استجابة الحزب لتطلعات الجماهير الثائرة؛
صحيح أن في الشارع
الكثير من الموتورين وقطّاع الطرق، والمتعصبين مذهبيا، والعملاء، والجهلة.... ، لكن
كل هؤلاء لا يستطيعون اختزال الحالة الجماهيرية العفوية.
يقول السيد أن الحزب غير مستعد للدخول في أي صراع داخلي، لأن هدف الإمبريالية هو إغراق الحزب في هذا المستنقع...
يقول السيد أن القول بأن لدى حزب الله فوبيا الحرب الاهلية، هو صحيح، وإن الحزب لا يريد الإنزلاق إلى هذه الحرب.
الحزب، وبسبب تركيبة المجتمع اللبناني يعرف أن أي تدخل في تعقيدات هذا الوضع سوف يؤدي إلى حرف الحزب عن جهاده المقدس في سبيل التحرير.
السيد أجاب بنفسه على نفسه حين قال إن الثورة في لبنان لا يمكن أن تنتصر إلا عندما تكون عابرة للمذاهب، وعابرة للطوائف...
وهل خلا مقال من مقالات المطالبات لحزب الله بالوقوف إلى جانب شعبه من هذا الشرط...
نعم يجب أن يكون الحزب على رأس جبهة عابرة للمذاهب والطوائف.
أليست سرايا المقاومة اللبنانية صورة من صور هذه القوة العابرة للمذاهب
والطوائف.
في تجربة المقاومة الفلسطينية، انتبه حكيم الثورة، الدكتور جورج حبش إلى مسألة مشابهة.
كانت الجبهة الشعبية قومية الإنتماء، أممية الإرتكاز، من أجل فلسطين.
كان فيها الفلسطيني واللبناني والمصري والأردني والسوري والعراقي والجزائري...
الخ
طلب الحكيم من اتباع كل منطقة، تشكيل منظمتهم التي تستطيع على أساسها النضال من أجل المطالب المحلية لكل إقليم على حدة، لأن الثورة الفلسطينية وهدف تحرير فلسطين يجب أن لا يضيع في النضالات المطلبية.
ولأن لهذه النضالات حقًّا على أهل الإقليم، ومَن أكثر من أعضاء الجبهة الشعبية أولى بقيادة هذا النضال المحلي (الداخلي).
لذلك كان حزب العمل الاشتراكي العربي، هو المُناط به النضال من أجل مطالب اللبنانيين المحلية دون أن تضطر الجبهة للإنغماس في قضايا الداخل اللبناني.
إلى أي مدى نجحت تجربة
الجبهة الشعبية؟
أين نجحت وأين لم تنجح؟
كل هذا قابل للدراسة واستخلاص العِبَر.
لكن من غير الممكن على الإطلاق، العيش في مجتمع وعدم التفاعل مع ما يجري فيه، وألا يكون كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمل، وتظن أن الصياد لا يراها طالما هي لا تراه.
لقد تجاوز حزب الله سنَّ الرشد ولا يستطيع البقاء على "النقاء الديني الاول".
لقد سمح الحزب لنفسه بالدخول الى سوريا، رغم أن نفس المعايير والمحاذير تنطبق هناك أيضا.
سوف يقول الحزب أنه لم يدخل إلا مرغما، وبعد تمادي العملاء من الأعراب والترك والكرد وغيرهم..
هل سوف ينتظر الحزب أن ترغمه الإمبريالية على القتال داخل لبنان؟
من الواضح أن قرار الحرب على الحزب قد تمّ،
وأن استهداف لبنان هو استهداف للحزب أساسا.
لقد فشلوا سنة 2006، وفشلوا سنة 2008 مع حكومة السنيورة، وفشلوا في سوريا، وهم يفشلون كل يوم في اليمن، وهم يحاولون في العراق...
لذلك أتوا ال. لبنان.
هم دمروا حتى أتباعهم وحلفائهم من أجل تدمير الحزب.
هل سوف يتوقّفون عن هذا لأن الحزب يريد النأي
بنفسه في الوضع الداخلي؟
إذا استطاع الحزب إقناع نفسه بهذا المنطق، فإن الإمبريالية لن تقتنع بالتأكيد.
ايهما افضل، التمثل بالنعامة، أم المضي بتجربة سرايا المقاومة والإرتفاع بهذه التجربة إلى مستويات أعلى وأكثر تقدما للوصول إلى الثورة العابرة المذاهب.
ظافر الخطيب والياس الزغبي لم يكونا في الحرب الأهلية استثناء.
كثيرون من مختلف المذاهب سقطوا من أجل لبنان وطني ديموقراطي.
وكثيرون من مختلف المذاهب مستعدّون للنضال من أجل دولة قوية عادلة
والذي لا يصدًق، فليسأل سهى بشارة وغيرها الكثيرين ممن سوف يرفضون أن تُحشر اسماؤهم في طوق مذهبيٍّ لعين، بينما هم يناضلون ليل نهار ضد كل هذا الوضع ويتوقون لذلك اليوم المجيد الذي لا ينتهي كما انتهى 7 أيار.
7 أيار، الذي قزّم مجده إلى بضعة شطحات مذهبية وطائفية مقيتة.
باختصار، على حزب الله أن يخرج إلى العالم لأنه كَبُر وصار اكبر من مجرد مذهب واكبر من مجرد قوة محلية.
أمام الحزب واحد من خيارين لا ثالث لهما،
إما القيد الطائفي والموت السريري بعدها... وإما المجد القومي الأممي العابر للمذاهب، وحتى القوميات .