منذ اثنين وخمسين عاماً ووري جثمان والدي المرحوم يحيى زلوم الثرى وتحديداً في 20\4\1969, حينها كنت شاباً صغيراً وكنت الوحيد من بين أشقائي بالقرب منه, حيث حلت هزيمة حزيران قبل موعد وفاته بأقل من عامين, صُلي على جثمان الوالد الطاهر في المسجد الأقصى و وري الجثمان الطاهر الثرى في مقيرة باب الرحمة, تقع مقبرة باب الرحمة على طرف السور الشرقي المشترك للقدس و حرم المسجد الأقصى.
بذات التاريخ, أي في 20\4 \2021 تمت مراسم تشييع جثمان شقيقي المرحوم العلامة والمفكر القومي العربي الدكتور عبد الحي زلوم في مقبرة سحاب نتيجة لمضاعفات فيروس كورونا, ومقبرة سحاب تقع الى الجنوب من العاصمة الاردنية عمان, لعل هذا التزامن بتاريخ وفاة والدي وشقيقي يعكس عمق ارتباط شقيقي المرحوم عبد الحي بوالده فطالما كان يستشهد بوالده في الكثير من مقالاته وهنا أشير لتركه وظيفته الهامة في الكويت ليتمكن من زيارة القدس ولقاء العائلة أسبوعياً, لقد كان رحمه الله شديد الارتباط بالعائلة والقدس وفلسطين وهذا ما انعكس بكل محور كتاباته.
بعد حدوث هزيمة حزيران ترك عمله وتوجه للكويت للعمل في شركة البترول الوطنية وكانت له مقولة تفسر سبب استقالته من شركة مصفاة البترول الاردنية حيث ردد بمناسبات خاصة عدة, قدمت لأتمكن من زيارة القدس وحيث لن أتمكن من زيارتها من الزرقاء, حيث مقر شركة مصفاة البترول الاردنية, فلا فرق إذاً بين الكويت والزرقاء.
مع تشغيل توسعة مصفاة الكويت صادفتها مشكلة وهي أن مواصفات وقود الفيول كانت لا تتوافق مع المعايير العالمية التي تسمح بتصديره للأسواق العالمية فكان يتم إعادة الفيول المكرر لخام البترول مما سبب خسارة لشركة البترول الوطنية في الكويت مما مثل مشكلة للشركة فاقترح أن يتم تعديل مواصفات الحارقات الخاصة بالمراجل في المصافي الكويتية لتستخدم الوقود "الفيول" المنتج , لاقى الاقتراح القبول من الشركة وتم استثمار الفيول بدل إعادته للخام وبالتالي خسارة قيمته المضافة, في ستينات القرن المنصرم لم تكن تقنية التكسير الهيدروجيني قد عرفت طريقها لمصافي النفط في بلادنا, بعد دخول هذه التقنية أصبح التحكم بالمنتجات البترولية أمراً سهلاً, واكب الراحل تقنية التكسير الهيدروجيني واصبح من روادها على المستوى العالمي وله إسهامات هامة في مساعدة الصين والهند كما أنه مكن السودان الشقيق من الاستفادة من الخام الثقيل لإنتاج البنزين وهو من المجموعة الكربونية الخفيفة من المشتقات النفطية.
أثناء إقامته في أمريكا في دورة فنية, عُرض على الراحل الاقامة للعمل بها, لكن روحه التي ارتبطت بالقدس فضلت ترك العمل بها والعودة للعمل ليكون بأقرب مكان منها.
قبل خمسة أشهر توفي شقيقي المهندس عبد الكريم يحيى زلوم نتيجة لمضاعفات فيروس كورونا اللعين فأصبحت أنا المتبقي الأخير من بين أبناء والديّ الذكور, رحم الله شقيقتي الكبرى واطال الله بعمر شقيقاتي وأمدهن الله بالصحة والعافية.
يقول المثل: ضربتان في الراس بتوجع, بعد وصول خبر وفاة شقيقي أصابتني حالة من الذهول والشتت حالت دون مقدرتي على الكتابة, حتى انني لم أقم بنعي شقيقي على مواقع التواصل الاجتماعي, نعم لم أعد قادراً على كتابة نعي ولا حتى الرد المناسب على من قام بالنعي على بعض مواقع التواصل الإجتماعي المتعددة, فالمعذرة كل المعذرة لمن فاتني شكرهم على كلماتهم الطيبة التي عبرت عن طيبتهم وأصالتهم.
المرحوم الدكتور عبد الحي كان مبدعا في عمله كمهندس, عمل في مجال صناعة تقنية البترول وكرس العقود الأخيرة من حياته في الكتابة السياسية الفكرية, نشر الراحل العديد من الكتب التي تناولت سياسات رأس الشر أمريكا, كتب عن سياساتها وممارساتها وتنبأ بزوال إمبرطوريتها بعدما تمادت بغطرستها, وقاحتها وعدوانها على الشعوب ومارست كل الموبقات بحق البشر, فلا نهضة لأمة بلا نهضة فكرية ومهمة استنهاض الوعي الجمعي ضرورة وطنية لمواجهة هذا الكم من المؤامرات التي تواجهنا كشعوب.
عمل الراحل على الإستشهاد بوثائق نادرة من كتب ومراجع دفع بها بكتبه ومقالاته ودراساته ودفع بمقابلها مبالغ كبيرة للحصول عليها ليقدم للقارئ العربي معلومات قيمة غير متاحة في المكتبة العربية.
في كتابه "نذر العولمة تساءل الراحل, هل يستطيع العالم أن يقول لا للرأسمالية المعلوماتية" (1999)، وذكر أن النظام الرأسمالي المعلومالي حقق إنجازات مادية لشعوبه على جانبي الأطلسي والبالغة حوالى 10% من سكان الكرة الأرضية، وذلك باستلاب مقدرات الـ90% من بقية سكان الكوكب الآخرين، جاءت أدوات العولمة كمنظمة التجارة العالمية وغيرها لتزيد من عملية الاستلاب تلك، لقد استلبت فئة الواحد بالمائة من كل شعب من شعوبها مقدراته، ثم استلبت خيرات ومقدرات البقية من الشعوب, فأصبح العالم مضطرباً كالواقف على رأسه لن يقوى على مثل هذا الوضع ولا يمكن الاستمرار به، حتى أن النظام المعلومالي بجبروته ووحدانيته بتلك الأيام كان قاب قوسين من الانهيار. بين العامين 2008—2009.
في كتابه "إمبراطورية الشر الجديدة" (2003)، أكد الراحل أن الصراع الذي تترأسه اليوم الولايات المتحدة الأميركية، ليس قائماً في أساسه بين الإسلام والغرب، بل هو بين بارونات المال و النفط والعسكر في الولايات المتحدة وخارجها، وبين بقية شعوب العالم، موضحاً كيف أن الدول الكبرى تسعى للسيطرة على النفط العالمي، منذ عام 1855 وحتى عام 2002، كما رصد التطورات السياسية والاقتصادية في الداخل الأميركي التي أثمرت عن استعمار أميركي جديد في قناع العولمة، وحروب غير أخلاقية تقضي على المبادئ التي يُزعم نشرها وحمايتها، وسيطرة الدولار على مصالح الشعوب، وصولاً إلى إخفاقات النظام الرأسمالي, اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً.
كما أصدر الراحل العديد من الكتب منها, "حروب البترول الصليبية والقرن الأميركي الجديد" (2005)، و"أميركا بعيون عربية" (2007)، و"أزمة نظام – الرأسمالية والعولمة في مأزق" (2009)، و"التاريخ الحقيقي لأميركا في العالم العربي, أميركا إسرائيل الكبرى، إسرائيل أميركا الصغرى" (2009)، و"الربيع العربي ثورة أم فوضى غير خلاقة" (2013)، و"مستقبل البترول العربي في كازينو العولمة" (2014.
في سؤالي له عن طبيعة المعلومات وخصوصيتها التي ترد سواءً في كتبه أو مقالاته , ذكر لي أنه من خلال قراءاته كان يلحظ الإشارة لمراجع وعند طلبها من المكتبات العالمية كان لا يجدها والسبب يكمن بمحاولة إخفاء معلومات هامة تفيد القارئ بشكل عام والباحث بشكل خاص, قال لي , لو بحثت عن اسم مؤسس رويترز الحقيقي في كل محركات البحث فلن تجده, فوجد ضالته بمواقع تحتفظ بالكتب النادرة وتبيعها بمبالغ كبيرة فعلى سبيل المثال لا الحصر, كتاب قديم وجد به معلومات عن حقيقة اسم رويترز, قام بشرائه بمبلغ 300 دولار وتمكن الإستفادة من معلوماته فالإسم الحقيقي لمؤسس وكالة رويترز هو اليهودي من أصل ألماني" اسرائيل جوزيفات" وهو من أوائل الباحثين على حيازة حقوق امتياز استثمار النفط في ايران والعراق.
لقد أدرك الراحل عمق الطبيعة البنيوية للإمبريالية الأمريكية وللنظم الإستعمارية وكما النظم الوظيفية التابعة له والتي تدور في فلكه وأخطرها الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين والتي أصر الراحل على وصفه ببيت العنكبوت وتنبأ بزواله وزوال امبراطورية الشر الكبرى أمريكا.
ختاماً, الفيروس الأمريكي كورونا قضى على العديد من القامات الفكرية في الوطن العربي والعالم ولا قضاء على الشر في هذا الكوكب الآ بالقضاء على امبراطورية الشر أمريكا ومنظومة الاستعمار و نظم التبعية التابعة لها ولا تحرر لبلداننا بوجود الغدة السرطانية المسماة "اسرائيل".