كثير من الأحيان عندما يتعرض الإنسان للعنف يُنكر ذلك، فلا يريد أن يتحدث عنه لكرامته وسمعته، أو لأن ذكريات هذا العنف تؤلمه..
مديحة زوجة ريفية من نساء مصر اختارت العيش مع زوجها أيمن التي لم تكن تعرف طباعه، فزواج الصالونات كان ولا يزال هو المهيمن على الثقافة المصرية..
تزوجا وخلال الشهر الأول لم تظهر من طباع أيمن سوى علامات الحب والشهوة، لكن الذي حدث بعد الشهر كان زلزالا..
أصبح أيمن يثور لكل صغيرة وكبيرة، بسبب أو بدون سبب، ولأن غضب الإنسان مُشخصَن في غالبه كان عندما ينظر إلى زوجته يغضب، ولما لا وهي أصبحت سبب غضبه..
لماذا ياأيمن تغضب مني..مديحة تتحدث مع نفسها سرا، أنا لم أفعل لك شيئا يستحق الإهانة، وقد ضحيت من وقتي وجهدي وسمعتي وكرامتي لإسعادك، أهذه ضريبة الحب؟..لماذا في كل مرة تضربني فيها أشعر أنك لا تتحكم في ذراعيك أو أن يديك ليست تحت سيطرتك؟
تطور غضب أيمن وأصبح يضربها بأشكال مختلفة، مرة على جسدها أو ذراعيها، ومرات على وجهها بالصفع المؤلم، ومرة بالعصا، تحملت مديحة هذا الضرب لكي تحافظ على زيجتها ومنزلها، وقد حدثتها نفسها يوما بإخبار عائلتها بما يحدث، لكنها ترددت خشية افتعال الأهل مشكلة أكبر من الضرب قد تنتهي بالطلاق..
دارت الأيام على هذا النحو، وفي لحظة هدوء جلس أيمن بجواز زوجته على سرير النوم ودار هذا الحوار:
أيمن: انتي تعرفي أنا بضربك ليه؟
مديحة: مفيش أي سبب يخليك تضربني بس أنا مستحملاك
أيمن: الإسلام هو اللي شرع لي ذلك، وبدأ في تلاوة بعض الأحاديث والآيات التي تجيز له ذلك، ثم عرض بعض فتاوى الأئمة بجواز أو وجوب ضرب الزوجة حين تنشز..
مديحة: وأنا نشزت إمتى ان شاء الله..دا انت في الرايحة والجاية تضرب، بسبب أو بدون سبب، مفيش حاجة عندك تتحل من غير إهانة..
أيمن: ما هو انتي لو مريحاني مكنتش ضربتك
مديحة: أنا لو كنت اعرف انك كدا مكنتش قبلتك، ويارب يكون للعذاب ده آخر علشان أنا زهقت..
انتبهت مديحة لثلاثة أمور هامة:
الأول: أن أيمن صارحها في تلك الأجواء السريرية طلبا للجنس المُمتع، يعني مصلحة..ففي الماضي لم تكن تُجيبه وتتفاعل مع حركاته وهنّاته وشهواته...وكيف تحبه وهو لا يحبها ويرحمها، حتى صار أيمن كأنه يمارس الحب مع خشبة متصلبة لا روح فيها ولا نُطق..
الثاني: أن الحب يعني الرحمة، لكن أيمن لا يرحمها فإذن هو لا يحبها، ويظن أن الحب شهوة لا غير..
الثالث: هو أن الضرب عند زوجها عقيدة وليس مجرد سلوك طائش، فالفرق بين الضرب عن عقيدة وتهور هو أن الأول يكون راسخا في النفس مقبولا في الطباع متجذرا في العقل، بينما الثاني يقف على الحافة ولا يحدث بشكل دائم، فالإنسان في أغلب أحواله هادئا، ولكراهية الإنسان للشر تطبعت أحواله على كراهية الغضب..
قررت أن تُصارح غيرها بما يحدث، لعل ذلك يشفيها من الضرر ، لعلها تخرج من هذا الوضع البائس، فانتعشت روحها بالأمل وغاب عنها اليأس في لحظات بعدما شعرت في الماضي أنها لم تكن تتخلص من هذا الألم..
بدأت تكتب لصديقاتها على الواتساب بارتياح، لكنها ترددت في إخبار العائلة عسى أن يزعجها ذلك الأمر، ومع ذلك فقد باتت على قناعة بضرورة إخبار الأهل والإصرار على أي حلول تنهي تلك المأساة، فحادثت صديقاتها ببعض الأمور لكنها لم تحك لهم كل شئ، فكبرياء الأنثى يُشعرها بالمساواة مع الذكر، ويمنعها من سرد كل ما يحدث حفظا لكرامتها وصورتها، فعند الأزمات يقول الإنسان أحيانا لا ينبغي أن يحدث ما حدث..فأنا أكبر مما حدث، ولذلك شعرت مديحة بالحرج من الفضفضة بكل شئ..
كان الذي يؤلم مديحة أيضا أنها وفي كل زيارة من أهلها تضع المكياج على وجهها لتُشعر أهلها بالسعادة..تضع قناع البهجة الكاذب على غير ما يحدث، تتصنع الحب وفي داخلها بركان من الحُزن، فتخرج لهم مبتسمة كأنه لم يحدث شئ، ولأنها تشك في عقاب أهلها لها بمنطق (إنتي اللي اختارتيه) كانت عندما تستشعر هذا العقاب العائلي تتحسر على أنها ولدت في هذا العالَم..
كانت تحدثها نفسها أيضا، حتى لو لم أخبر أهلي ألم يروا جميعا سلوكه؟ ألم يشكوا في علاقته معي؟ إن عدم تفاعلهم زاد لديها الشك في رغبة العائلة بدعمها، فتوقفت نهائيا عن فكرة تدخل الأقارب..
مرت الأيام والشهور والسنوات على مديحة على هذا النحو..
عذاب يومي واغتراب كامل عن الحب حتى عندما ترى ذلك الحب في الدراما والسينما تستغرب..بماذا يشعرون؟..كانت تأوي إلى سريرها في الليل والنهار وهي تحضن أي شئ أملا في أن تجد هذه الملائكة البيضاء التي يصفوها الناس (بالحبيب)..
نهضت مديحة يوما وقررت التفكير بشكل مختلف، فهي تضيع وسط محارق الغضب الكامن، إن الحُزن يأكلها من الداخل..إن مديحة تنتهي، فقررت وبدلا من الاعتماد على أهلها وصديقاتها في الحل..أن تُعالِج الأمر بنفسها..
إن المرأة خلقت مساوية للرجل..ما الذي يفرقه عني، وبدأت تتفحص آيات القرآن الكريم بشكل مختلف، ووقفت على حقيقة أن المرأة والرجل متساويان في الكرامة والحق الإنساني والشخصي، وأن آية الضرب ذكرت في سياق النهي والتعجيز لعرب قريش، وأن النُصح والهجران كان أمرا إلهيا لمجتمع عربي جاهلي لا يعرف سوى الضرب..
بدأت تستمع لمفكرين ومثقفين ونخبة تتكلم في الدين بشكل مختلف عن السائد، بدأت تبحث عن فتاوى معتدلة لشيوخ مستنيرين يتحدثون بمنطق وعلم، توقفت تماما عن الاستماع لرجال الدين المتشددين أو القناعة بفتاويهم..توقفت تماما عن زيارة مواقع هؤلاء الشيوخ على الإنترنت..
فمن ذا الذي يختار بين السماع لمن يحبه ويشعر به، وبين من يكرهه ويستمتع بألمه..
إن الحل عند مديحة لن يأتي من الخارج بل منها، فالعنف المنزلي وضرب النساء مشكلة اجتماعية خاصة بكل نساء الشرق، ليست مديحة وحدها التي تعاني، وإن كان الألم الذي شعرته في السنوات الماضية يكفي لصناعة جبال من الغضب..لكنها كأنثى أقوى من الغضب ، فاختارت بناء نفسها عقليا وذهنيا وروحيا قبل التفكير بشكل متهور، حتى لو كان الطلاق هو الحل..لماذا ننظر إليه بازدراء وقد شُرع لهذا الغرض..
لكن بناء النفس قبل الانفصال هو الضامن على صدق وصحة خيارها في المستقبل، ولكي لا تصبح كائنا ضعيفا يعتمد على أهله في علاج أبسط حقوقه..وهي الكرامة..