كتب الأستاذ حليم خاتون: ترشيد الدعم، نوايا حسنة ام خطاب شعبوي زبائني...؟
دراسات و أبحاث
كتب الأستاذ حليم خاتون: ترشيد الدعم، نوايا حسنة ام خطاب شعبوي زبائني...؟
حليم خاتون
23 حزيران 2021 , 21:17 م
كتب الأستاذ حليم خاتون:    كان الإتحاد السوفياتي يفاخر العالم بعدم وجود مشكلة بطالة عنده بالإضافة إلى الكثير الكثير... من الأمور الأخرى.... في الإشتراكية الماركسية، حق العمل، حق دستوري تفرضه ال

كتب الأستاذ حليم خاتون: 
 

كان الإتحاد السوفياتي يفاخر العالم بعدم وجود مشكلة بطالة عنده بالإضافة إلى الكثير الكثير... من الأمور الأخرى....

في الإشتراكية الماركسية، حق العمل، حق دستوري تفرضه القوانين...

لم أذهب مرة، ولو واحدة إلى مكتب عميد الكلية لأمر ما، إلا وكانت الموظفات الأربعة في السكريتاريا، يتسامرن حول إبريق من الشاي، في عمل .... لا شيء...

ما كانت تفعله الموظفات الأربعة لم يكن يحتاج لأكثر من سكرتيرة مشتركة واحدة لمكتبين إثنين على الأقل...

على العكس من ذلك، كانت العادة في بيروت أن تقوم سكرتيرة نشيطة واحدة بخدمة عدة مكاتب في آن واحد...

في الإتحاد السوفياتي، كانت البطالة مقنعة، وتعتمد على توزيع راتب موظفة نشيطة على أربعة موظفات كسالى... حيث كان الراتب الأدنى للأجور لا يتجاوز يومها الثمانين روبلا، تساوي حوالي المئة دولار وفق السعر الرسمي... وحوالي العشرين دولار في السوق السوداء...

صحيح أن إيجار الشقة كان أقل من عشرة إلى عشرين من الروبلات... لكن، كان من المستحيل إيجاد هذه الشقة... بحيث كانت البنت او الشاب يقومان باقتسام هذه الشقة مع الاهل بعد الزواج...

مع العلم أن معظم الشقق كانت من ايام ستالين... حيث كانت الشقة المؤلفة من أكثر من غرفة نوم واحدة، وغرفة جلوس واحدة وحمام واحد وزاوية مطبخ بمساحة لا تزيد على 40 إلى 50م٢، تعتبر رفاهية برجوازية...

انتشرت السوق السوداء حتى قضت على الإشتراكية الستالينية المشوهة، وقضت على الدولة وعلى أبو الذي "خلّف" هذه الدولة...

قامت الإشتراكية السوفياتية باقتصادها وعلومها والموتور الفاعل فيها على أكتاف بضعة ملايين من البشر المميزين فعلا لم يتجاوزوا (٥ إلى ١٥٪) من مجموع السكان... 
وحوّل هذا النظام القائم على "الدعم"، بقية السكان إما إلى روبوتات بشرية أو إلى كمية كبيرة من البشر الطفيليين الذين يعيشون على الريع وعدم الإنتاج..

عفوا، ومعذرة... على هذا الاستطراد المختصر قدر الإمكان عن بنية المجتمع والاقتصاد السوفياتي... لكن للضرورة أحكام... 

ما يطرحه ذوو النوايا الحسنة في لبنان تحت بند ترشيد الدعم، أجبرني على إعطاء ظاهرة واحدة فقط من ألاف الظواهر التي دمرت دولة من وزن الإتحاد السوفياتي، فما بال البعض بدولة هي في الأساس مسخ، وشبه دولة رغم كل ما حاول فؤاد شهاب فعله ليجعل من هذا المسخ... دولة...

لبنان، ببنيته الحالية، بلد ريعي بامتياز، ولا ينتج شيئا تقريبا...
زراعته تعتمد على الاستيراد..
صناعته، أسوأ من زراعته بسنين ضوئية...

منذ شهور ومنذ أن بدأ الكلام عن ثقل الدعم على الاقتصاد... راح الكثيرون، ومنهم نواب ووزراء المقاومة يتحدثون عن ترشيد الدعم في مسلسل من الاقتراحات التي لم تستند ولو على دراسة معمّقة واحدة لما جرى.... وما يجري..

ولا دراسة جدية واحدة عما يطالبون به وما سوف ينتج عما يطالبون به من وقائع على الأرض...

آخر اقتراحات الترشيد السطحية جاءت مع الأسف مع أحد أكثر الخبراء إحساسا بالمسؤولية الوطنية والشعبية على شاشة الNBN مع الاخ محمد شمس الدين...

يقول الخبير شمس الدين أن قطاع النقل العام في لبنان الذي يشكل حوالي ١٥٪ من وسائل النقل، ثلثه تقريبا غير شرعي؛ يجب أن يحظى بدعم كامل للمحافظة على نقل عام في متناول أغلبية اللبنانيين من أجل المحافظة على استمرارية العمل...

يقترح الخبير شمس الدين، أن تعطى كل وسيلة نقل، تنكة بنزين مدعوم كل صباح...

سوف يأتي السيد (أ) صباحا إلى المحطة ويحصل على تنكة بنزين مدعوم لا يزيد سعرها على أربعين ألف ليرة...

السيد (أ) سوف يعمل طيلة النهار وقسم من الليل قبل أن يعود إلى بيته بغلة قد تصل مئتي ألف ليرة على افتراض أنه تمكن من نقل اربعين أو خمسين شخصا في اليوم الواحد!!

السيد (أ) سوف يضع كل يوم ستين ألف ليرة من أجل الزيت والدواليب وأبسط انواع الصيانة لسيارته... ما يعني أن الباقي عنده هو مئة ألف ليرة ...

 سوف يعمل السيد (أ) كل يوم ، بما في ذلك ايام العطلة طيلة الشهر...

انتاج السيد (أ) في الشهر سوف يكون ثلاثة ملايين ليرة، أي حوالي أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور...

في المقابل، سوف يذهب السيد (ب)، كل صباح ليحصل على تنكة البنزين المدعومة... 

يصل إلى البيت، يفرغ هذه التنكة ويبيعها بمئة وخمسين ألف ليرة في السوق السوداء، على أقل تقدير... حيث أن ثمن التنكة غير المدعومة في المحطة يصل قرابة المئتي ألف ليرة...

السيد (ب) يحافظ على سيارته دون كلفة كبيرة لأنه لا يشتغل عليها... هكذا يخرج بعد شهر بأربعة ملايين وخمسمئة ألف ليرة، أي ستة أضعاف الحد الأدنى للأجور ويساهم عبر إيقاف سيارته عن العمل بزيادة أزمة النقل في البلد...

يضيف السيد شمس الدين أنه يتوجب تشريع النقل العام غير الشرعي من أجل تجنب أزمة نقل في البلد...

يسمع السيد (ج) بهذا الأمر، فيهرع لتشريع سيارته ويقوم بنفس خطوات السيد (ب)...

هكذا، وبخطوة واحدة غير مدروسة، نبعد سيارتين عن خدمة النقل، ونساهم بخلق رجلين إثنين من أهل الريع والتنبلة وعدم الإنتاج وقضاء الوقت مع الاركيلة أو لعب طاولة الزهر...

ما سبق أن حدث مع السادة (أ وب وج) سوف يتكرر بصيغة من مئات الصيغ التي لن يعجز العقل اللبناني الريعي عن إيجادها...

ليس هكذا تؤتى الإبل، يقول المثل...

ما هكذا تبنى الاوطان والدول...

لبناء الإقتصاد كما يجب...
علينا اولا اتخاذ قرار واضح.

اي نوع من الإقتصاد نريد...؟

بين الإقتصاد السوفياتي المشلول واقتصاد الرأسمالية المتوحشة، يوجد دائما حلول..

عندما كنت ادرس في المانيا، كان أول سؤال وجهه المحاضر للطلاب...

ما هو نوع الإقتصاد الألماني؟

تراوحت الأجوبة بين التصنيف الرأسمالي وصولا حتى الإشتراكية، حيث كان المحاضر يطرح صفة تناقض اي نوع من اقتراحات الطلبة...

حين يقول الطالب أن النظام رأسمالي، يضع المحاضر على اللوح عدة صفات تناقض هذا النظام،  موجودة في الاقتصاد الألماني...

وحين يكون الإقتراح أن النظام اشتراكي يضع على الجانب الآخر من اللوح، الصفات الرأسمالية التي تميز الاقتصاد الألماني...

ليخلص في النهاية إلى الصفة الأكثر واقعية...

الاقتصاد الألماني هو اقتصاد إجتماعي... الحافز وراء كل قانون هو مدى تلبيته لحاجات المجتمع...

"أنا أستاذ ماركسي"، أضاف المحاضر، ثم قال، منذ بسمارك والى اليوم... منذ عهد القيصر إلى عهد المستشارية، ظلت القوانين تتطور دوما حسب حاجة المجتمع...

لقد كان بسمارك في عهد القيصر هو أول من وضع قبل حوالي القرنين من الزمن قوانين حق العمل، وحق التعليم المجاني، وحق الضمان للعمال رغم أنه كان يكره الأشتراكيين"...

ابتسم المحاضر وأضاف، " أنا أيضا، اكره بسمارك. لكن هذا الرجل كان يحب بلده... لقد بنى المانيا الحديثة..."

برأيي المتواضع جدا...
ما نحتاجه كخطوة أولى  في لبنان ليس ترشيدا شعبويا زبائنيا،  بل:

1-إعادة كل المال المنهوب حتى ولو اضطرّنا الأمر إلى نصب المشانق....وفتح أبواب الريتز لأصحاب الياقات... مع كل انواع الضيافة التي استعملتها كل الثورات...

2- إعادة رسملة خزينة الدولة من هذا المال المُستعاد... وليس إعادة رسملة المصارف كما يجري الآن....

3- وضع جدول للضرائب يتراوح بين 49% كما في المانيا، و75% كما في فرنسا والذي لا يريد الاستثمار والعيش في لبنان فليذهب إلى الجحيم... البلد يأتي أولا...

4- يتم وضع سلم للرواتب  بين حد أدنى للأجور وحد أقصى بحيث لا يتجاوز هذا الحد الاقصى، وكخطوة أولى أكثر من ثلاثة أضعاف الحد الأدنى... ويُرفع هذا الحد الادنى فورا إلى المستوى المعقول المطلوب والذي يؤمن الحد الأدنى من العيش بعد إلغاء الدعم بشكل كامل...

5- يتم انشاء أو إصدار مراسيم لتسهيل إقامة مشاريع مع تخفيض استثنائي في الضرائب مع كل زيادة في عدد العمال... لتشجيع الاستثمار في الناس...

6- تقوم الدولة بدفع راتب يصل إلى نصف أو ثلث الحد الأدنى للأجور لكل عاطل مقابل أن يذهب للعمل على غرس وزراعة كل اراضي المشاع والجبال بعد استعادتها ممن وضع يده عليها سابقا...

إما أن نريد بناء دولة مع قرارت صعبة... أو نريد الاستمرار في اسكات الناس عبر الدعم الذي يؤمن مواطَنَة زبائنية وليس مواطنين احرار....
                     

المصدر: موقع إضاءات الإحباري