كتب الأستاذ حليم خاتون:
لوهلة يبدو هذا السؤال بسيطا إلى درجة استهبال من يطرحه...
بل قد يوصف من يطرحه بخفة العقل والمنطق... لكن مرة أخرى خذوا الحكمة من أفواه بسطاء الناس...
لنتفق أولا على تحديد معنى الفساد... في أبسط صورة وفي أبسط ووصف ممكن، دون أية تعقيدات...
الفساد هو أي عملية يكسب فيها طرف ما، كسبا ماديا أو معنويا عن غير وجه حق... هكذا وبمنتهى البساطة والصراحة...
بعد هذا التعريف ننتقل إلى محاولة تحديد من هم الفاسدين...
الفاسد في اللغة العربية الفصحى هو الفاعل الذي يرتكب فعل الفساد... أي هو ذلك الذي يكسب كسبا ماديا أو معنويا عن غير وجه حق...
الذين يكسبون عن غير وجه حق في لبنان ينقسمون بدورهم إلى درجات عديدة....
هناك من يستفيد من خدمة بسيطة في دائرة ما أو إدارة ما كي تمشي معاملة، وهذا هو ابسط وأقل درجات الفساد...
درجات الفساد هي على شكل سلّم، كلما طلعنا درجة زاد الكسب، حتى إذا وصلنا الى اعلى السلم، يكون الكسب قد كبر إلى درجة منافسة محمد بن سلمان في شراء الذمم واليخوت والقصور وحتى التخزين الذي يزيد على كفاية عدة أجيال قادمة...
في الدرجات الأولى، قد لا يكون الفاسد إنسانا سيئا، لكنه وُلد في بلد لا تتطور فيه القوانين بمرور الزمن... بمعنى آخر، يذهب صاحبنا لمعاملة بسيطة في الإدارة، حيث يفاجأ بأن القانون الذي يعود إلى العصر الحجري لا زال سائر المفعول وان السلطة لا تريد تطويره كي يبقى مصيدة للمواطنين لابتزازهم ماديا أو معنويا أو زبائنيا...
في أعلى السلّم، لن نجد بالتأكيد مواطنا بسيطا، بل مقاولا كبيرا يعمل لحسابه احيانا، أو لحساب مسؤول كبير في السلطة أو في الطائفة... أو في "المعارضة" في بلد يفصل بين السلطة الفعلية والمعارضة الفعلية، خيط غير مرئي، يتداخل في كل الاتجاهات إلى حد الذوبان...
صدقوني، ليس في كل ما سبق أي فلسفة أو تفلسف...
في لبنان، المعارضة والسلطة ليسا مجرد توأمين...
في لبنان تتماهى المعارضة والسلطة إلى درجة لا يستطيع المرء التمييز بينهما...
هنا، الإعجاز اللبناني الفريد...
ولكي لا يستمر المرء في الفلسفة غير الفلسفية التي لا يستطيع فهمها إلا من كان أكثر جنونا من الكاتب نفسه نصل إلى حقيقة أن ليس في لبنان من وجود لغير الفاسدين... هكذا ببساطة وعلى بلاطة...
إذا كان كل اللبنانيين فاسدين بهذه الدرجة أو تلك، من المستفيد؟
إنها "الحزورة" التي لم استطع الإجابة عليها منذ أيام الجامعة...
يومها، فاجأتني صديقتي بسؤال عن لبنان... قالت لي انها عرفت من أصدقاء لها زاروا لبنان، قالوا لها أن هذا بلد من التجار...
بين التاجر والتاجر يوجد تاجر، وبين الدكان والدكان، يوجد دكان... فكرت لحظة... تذكرت الشوارع والطرقات والدكاكين، وحتى القرى والبلدات، ثم اجبتها، أن هذا صحيح إلى حدّ كبير...
عاودت السؤال وقالت، إذا كنتم كلكم تجار، من ينتج ما تبيعونه؟
من يُنتج؟
هنا السؤال...
كلنا تجار، لا احد ينتج.
كلنا نعيش في حلقة من السرقات المتبادلة...
نفس الإجابة تصلح على سؤال،
إذا كنا كلنا فاسدين، فعلى حساب من هذا الفساد؟
ببساطة مرة أخرى، هذا الفساد يجري على حسابنا جميعا...
إذا كان الأمر كذلك، لماذا تأخرت الصرخة أن تطلع؟
مرة أخرى، الإجابة أيضا بسيطة جدا...
صحيح أن كل الناس فاسدون، لكن هناك فاسد كبير وفاسد صغير كما أسلفنا...
كلما زاد فساد الفاسد الكبير، نَقُص فساد الفاسد الصغير...
وبما أن فساد الفاسد الكبير وصل إلى حجم ميزانيات دول...، طار كل ما كان يجنيه الفاسد الصغير...
مَن من هؤلاء قد يريد محاربة نظام الفساد؟
لا احد... أجل لا احد يريد محاربة نظام الفساد... كل ما يريده اللبنانيون هو العودة إلى نظام الفساد السابق...
لكن المشكلة أن الدرجات الوسطى من السلم، قد انكسرت..
الفاسدون الموجودون في أعلى السلم، لا زالوا هناك في الأعلى، بينما وقع كل من كان في الدرجات الوسطى إلى الدرجات السفلى...
في الماركسية، هذا يعني أن الطبقة الوسطى انحدرت إلى الطبقات الفقيرة...
والطبقات الفقيرة إلى طبقات ما دون خط الفقر...
في لبنان أيضاً، كل واحد يريد محاربة الفساد عند الآخرين دون الإقلاع عن الفساد الذي عنده...
المسيحيون عند المسلمين، والمسلمون عند المسيحيين...
السنة عند الشيعة والشيعة عند السنة...
كل فئة ترى حبة الغبار في عين الفرق الأخرى ولا ترى صحاري الرمل في عينيها...
ما يصح على الأفراد يصح اكثر بكثير على الأحزاب والتيارات والحركات والفرق...
هؤلاء، في النهاية، ليسوا سوى البنية الفوقية، للأفراد الذين يشكلون البنية التحتية في المجتمع...
وكما تكونون، يولّى عليكم..
عفوا مرة أخرى، يبدو أن الإقلاع عن التفلسف ليس أمرا سهلا...
بالعربي "المشبرح"، كل أحزاب لبنان فاسدة...
كل فرد من هذه الأحزاب فاسد...
يرفض البعض شعار كلهم يعني كلهم... وهو شعار فيه فعلا الكثير من الخطأ... لكن فيه شيء من الصحة... مهما صغُر حجم هذه الصُحة، إلا أنها موجودة...
وألا، لماذا لا يقوم أحد بمجرد محاولة محاربة الفساد بدل التنظير علينا وتخويفنا، كما كانت المافيا تخيف من يحاول محاربتها...
والذي عنده تحليل آخر، فليقل لنا لماذا هذا العفيف الطاهر لا يحارب الفساد؟
لماذا يريد من شعب لبنان القبول بمجيء فاسد الى اعلى السلطة لأنه قادر على الشحادة من المجتمع الدولي؟..
لماذا يفلق سمانا بالحديث عن الاتجاه شرقا، ثم لا يفعل شيئا كي نتجه إلى هذا الشرق اللعين؟
أمس، لامني أحدهم، لأني لم استطع رؤية الفرق بين تونس ولبنان...
لبنان، مجموعة طوائف، وليس الأمر كما في تونس...
وصلنا مع الصديق إلى أن الحل ربما يكون في جبهة من غير الفاسدين، من مختلف الطوائف...
.
فتشنا بين "القش" اللبناني عن قيس سعيًد لبناني، دون جدوى...
كل اللبنانيين هم ضد الفساد، وكلهم فاسدون في نفس الوقت.
ما العمل؟
افضل طريقة وجدها مجموعة من الأذكياء في لبنان:
أفضل طريقة لعدم الوقوع في الغلط وتلقي اللوم في حال الفشل، هو في النأي بالنفس وعدم فعل شيء على الإطلاق...
هكذا لن يلومك احد...
فتش دوما عن الوفاق والتوافق دون تبني نهج صريح واضح قد يؤدي إلى نتيجة... هكذا افضل...
لن يلومك احد... فأنت تفعل كل ما في وسعك... لعدم فعل أي شيء على الإطلاق...
نحن العرب نعيش في تخلف مدقع وعلى كل المستويات الفكرية والثقافية والإقتصادية.
حتى الغنى والمال الذي نملكه ليس ناتج عن عمل، بل هو أُعطية من عند الله، لن تلبث أن تنضب يوما...
في عزائنا على هذه الحال، وهروبا من هذا الواقع المخزي، نلجأ أحيانا إلى أمجاد أسلافنا، نعيش على هذه الأمجاد...
ماذا نفعل نحن في لبنان هذه الأيام؟
نعيش لحظات انتصار تموز ٢٠٠٦... نعيش على أمجادها كي لا نضطر إلى اتخاذ موقف بين الطبقات الدنيا وطبقة الواحد في المئة التي اعتدنا على وجودها ولم نعد نطيق عنها فراقا...
لهذا، سمينا نجيب ميقاتي رئيسا مكلّفا... علّه يقنع الأميركيين والصهاينة بعدم حرق لبنان...
على فكرة،
لا اميركا ولا إسرائيل تبالي إذا احترق كل لبنان بمن فيه، ومن عليه... فقط نحن نعتقد أن اميركا تخشى الفوضى....
في حقيقة الأمر، هدف اميركا هو الفوضى وفشل المقاومة في التصدي لهذه الفوضى...
مبروك علينا الرقود، وعدم الفاعلية سوى بالتغني بالشهداء الذين سقطوا كي يأتي أبناء القحبة ويقرطوا كل الوطن...