كتب الأستاذ حليم خاتون:
هل ما فعله قيس سعيًد، مؤامرة دُبًرت بليل؟
بالتأكيد، لم يستيقظ الرئيس التونسي صباحا، ويقرر بضربة واحدة، وضع حدّ لمنظومة الفساد التي سيطرت على الدولة التونسية مباشرة بعد الثورة الشعبية العارمة....
الثورة التي تمت سرقتها من قبل الإخوان المسلمين ومجموعة من الانتهازيين بعد الاطاحة بزين العابدين بن علي...
السؤال الجدير بالذكر، هو كيف استطاع أستاذ جامعة مغمور خلقَ المفاجأة والإطاحة بكل حيتان المال والسياسة الذين رموا أموالاً هائلة في الانتخابات الرئاسية، فجاءتهم الضربة من حيث لا يحتسبون؟
إما أن يكون قيس سعيد، مرشح قوة خفية لها أهداف أخرى غير ما تقوم به حركة النهضة وشركائها، وهذا ما يحاول الإخوان المسلمين ترويجه عبر الربط بين الرئيس التونسي من جهة والإمارات ومصر من جهة أخرى...
وإما أن الرجل استطاع فعلا قراءة عدة أمور حدثت وتحدث في المشهد التونسي، فقرر البناء عليها لخلق المفارقة التي حصلت...
نظرة سريعة على كل ما جرى بعد الثورة كفيل بإيضاح الكثير من هذه الأمور:
صحيح أن أحدا في تونس لم يندم على سقوط بن علي، أو تمنى عودته أو عدم سقوطه، لكن الصحيح أيضا أن حالة من الحنين إلى زمن الاستقرار أيام بورقيبة كانت تنتشر مثل النار في الهشيم وسط الشعب التونسي عامة، والطبقة الوسطى المدينية خاصة.
كان الشعب التونسي قد ملّ من فساد حركة النهضة وشركائها...
لذلك، قام بمعاقبة كل ما أفرزته الثورة التي أطاحت بزين العابدين بن علي من قيادات انتهازية تحالفت مع حركة النهضة في ترويكا نهب وفساد...
ترويكا ليست بعيدة على فهم اللبنانيين الذين ابتلاهم الله بترويكا مشابهة هم أيضاً، قبل توسع هذه الترويكا لتضم أطرافا من محترفي الفساد والسرقة...
تم إقصاء هذه الترويكا لصالح حركة نداء تونس... والنهضة..
حركة النهضة هذه، صمدت أمام الغضب الشعبي بفضل مركزيتها، وقوة تنظيمها المستند إلى دعم حركات الإخوان المسلمين في المنطقة وعلى رأسهم إردوغان... مع نوع من الرضى الأميركي أيام أوباما الذي كان برنامجه لحل القضية الفلسطينية يقوم على الاستعانة بالإخوان المسلمين لإخضاع الفلسطينيين لحلول سوف تكون حتما على حسابهم وعلى حساب حرية تقرير مصيرهم...
بدل الترويكا، قامت ثنائية من حركة نداء تونس وحركة النهضة... ثنائية لم تغير من أوضاع تونس شيئا يسمح لشعب هذا البلد بأي شيء من الرفاه الذي حلم به غداة الثورة...
إذا كانت حركة النهضة استطاعت الصمود والبقاء في السلطة بفضل التيار الديني المحافظ المنتشر في الريف، المتخلف اقتصاديا وثقافيا وفكريا، فإن حركة نداء تونس ما لبثت أن تشظت، بين ورثة مؤسسها رئيس الجمهورية السابق، قائد السبسي...
مع موت صاحب الكاريزما، قائد السبسي هذا، وعدم وجود وريث شرعي آخر للبورقيبية، وتوزع العلمانيين في تونس بين مجموعة من رجال الأعمال الفاسدين... يبدو أن شعب تونس قرر الذهاب الى حضن رجل اختصاص يجمع بين نظافة الكف، والمواقف الوطنية في ما يخص العروبة والقضية الفلسطينية من جهة، وبين العداء للتيار الإخواني وشركائه من الفاسدين من جهة أخرى...
لكن هل يعني كل هذا أن الرئيس سعيًد لم يحظ بدعم ما؟
الواضح جدا أن المؤسسة العسكرية خاصة، والمؤسسات الأمنية الأخرى، كانت على علم وتنسيق كامل مع رئيس الجمهورية؛ وهي من قام بالانتشار في تونس العاصمة والمدن الأخرى، وهي من منع راشد الغنوشي من دخول البرلمان ومحاولة خلق ازدواجية سلطة...
ازدواجية فشلت النهضة في استنهاضها، حيث خرجت الجماهير التونسية لتحية الرئيس ودعم خطواته... حتى في مركز ثقل حركة النهضة في صفاقس...
هل كانت فرنسا على علم ومعها الغرب أيضاً؟
على ما يبدو، حصل الغرب على بعض التطمينات، ولذلك رفضت ألمانيا وصف ما قام به الرئيس قيس سعيًد بالانقلاب... واكتفت اميركا بالدعوة للعودة إلى التعددية الديموقراطية في اسرع وقت ممكن...
أوروبا عامة، وفرنسا وألمانيا في الخصوص، لا تريد التعرض لأية موجات هجرة جديدة... أوروبا بالكاد هضمت الملايين التي تدفقت إلى القارة العجوز بسبب الحرب الكونية التي شُنت على سوريا في تواطؤ بين الاخوان المسلمين والتكفيريين والصهاينةوكل الامبرياليات وكلابهم من الأعراب والمستعربين...
مصر اكيد مرتاحة لأنها أكثر العارفين بمدى قوة تمدد الأخطبوط الإخواني، ومدى قدرته على خلق مشاكل للأنظمة الحاكمة...
الجزائر التي عاشت عُشرية سوداء مع الإخوان والسلفيين وأسلاف داعش والنصرة من الأفغان العرب في القرن الماضي، سعت بكل جهد لكي لا تتكرر تلك المأساة في تونس...
الإمارات، وبغض النظر عن خياناتها وسقوطها الأخلاقي والديني والقومي الذي لا مثيل له في تاريخ الأمم، تُفضًل سقوط برنامج حل القضية الفلسطينية وفق خطة أوباما، لأنها انخرطت في مشروع ألعن منه، هو صفقة القرن مع دونالد ترامب...
لكن هل يكفي كل ما ذُكر أعلاه لإدانة الرئيس التونسي أو تمجيده؟
ليس من الضرورة بشيء أن ينزلق قيس سعيًد إلى التعامل مع إسرائيل كما الإمارات...
مواقف الرجل من القضية الفلسطينية ومن قانون تجريم التطبيع الذي اسقطته النهضة وحلفاؤها اثناء التصويت في البرلمان التونسي، يؤشر إلى وطنية الرجل...
أن أحدا لا يطلب من الرئيس قيس سعيًد الاتجاه شرقا أو معاداة الغرب في حال لم يقم هذا الغرب بخطوات عدائية تجاه تونس وشعبها وخياراتها الوطنية...
لكن الحذر واجب أيضاً...
صحيح أن اقتصاد واستقرار تونس مهم جدا في النضال الوطني والقومي... ولكن ليس بأي ثمن.
حتى الآن، وفي كل يوم يثبت الرئيس سعيًد أكثر وأكثر، أنه رجل مرحلة محاربة الفساد بامتياز...
ويستطيع بالتأكيد، وتستطيع تونس أيضاً، إعطاء دروس في هذا المجال لكل العرب عامة واللبنانيين خاصة، الذين ابتلاهم الله بأرذل ما يمكن أن تتفتق عنه عبقرية النهب والفساد والإجرام السلطوي في عالم الرأسمالية المتوحشة القبيحة الحاكمة في لبنان...
الإطاحة بالفاسدين...
الإطاحة بالإخوان...
كل هذا خطوة هائلة إلى الأمام...
لكن إعادة بناء الدولة المدنية التي لها جذور راسخة في تونس
هو الخطوة الأهم التي يجب السعي إليها كي يصبح هذا البلد منارة الشرق الغارق في ظلمات الجاهلية بفرعيها الديني والعلماني...