كتب توفيق شومان:
السؤال الذي يطرحه أغلب اللبنانيين هو : ماذا يدور في أدمغة أغلب أهل السياسة، حينما يرون الناس يعيشون في العتمة ولا يجدون حبة دواء ، و يفتقدون الى المازوت والبنزين ، ويفقدون وظائفهم ويهجسون بالجوع ولا يجدون رغيف يومهم .
يسأل اللبنانيون ولا يحصلون على إجابة.
في التاريخ القديم ، مشاهد من كلمات ومنحوتات ، تُظهر كيفية سوق الناس - العبيد، في مصر الفرعونية إلى الموت جوعاً وإرهاقا ، إذ كان جلادو الفراعنة وجندهم ، يُجبرون بأقواسهم ونِبالهم وفؤوسهم أشباه الأموات على بناء الأهرامات ، فلا يتيحون للعبيد غذاء ساعة ولا ساعة راحة ، وحين تتساقط الأرواح عن الأجساد الميتة ، يصار إلى قذفها في النهر محولة إياه إلى مقابر من ماء.
في مصر الفرعونية كان الصمت فضيلة ، والِاعتراض على الجوع من كبائر التمرد على الفرعون ، وجاء في وصية الفرعون خيتي إلى إبنه:
" إذا وجدت رجلًا يتكلم أكثر من اللازم ويثير الإضطراب ، اقتله ، اُمْحُ اسمه ، أزِل جنسه ، فذاك الرجل كارثة ".
المشهد الذي كان في مصر القديمة يستنسخ نفسه في لبنان الحالي.
وفي العراق القديم، كان أكثر الناس عبيداً أو أرِقّاء، أو أُجراء عند الملوك ومن يحيط بهم من الحاشية وقلة طبقية مختارة.
حفر العبيد والفقراء العراقيون الأقدمون قنوات الماء ، وكان الماء الصافي والنقي من نصيب البطاشين والجلادين ولأهل المُلك والإمرة ، أما الماء الملوّث فكان من نصيب الذين حفروا وشيّدوا وخلّدوا واحدةً من أعظم الحضارات في التاريخ.
الصورة نفسها في لبنان الراهن.
ينشد الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم هذه الأبيات:
ونشرب إن وردنا الماءَ صفواً / ويشرب غيرنا كدراً وطينا.
في كتب التاريخ ومشاربها واختلافاتها، وفي تاريخ مشارق الأرض ومغاربها، يحفظ القراء والدارسون :
أن أهل الحُكم يأخذون ما يشاؤون ، ويستولون على أرض لو أرادوها ، وعلى أموال لو مالوا إليها ، وعلى أية امرأة لو رغبوا بها واشتهوها.
في رواية: "حفلة التيس" المصنفة كواحدة من أهم الروايات العالمية، يسرد مؤلفها ماريو بارغاس يوسا ، وقائع من حكم رافائيل ليونيدس تروخييو ، دكتاتور جمهورية الدومينكان (1930 ـ 1961) ، فيقص أحداثاً أشبه بالأساطير ، إذ كان الدكتاتور تروخييو يمتحن ولاء وزرائه، بزيارات مفاجئة إلى منازلهم ، وما أن يدخل الدكتاتور منزل الوزير المعني حتى يخلي الوزير منزله تاركاً الدكتاتور على فراش الزوجية !!!.
امتحان الولاء
امتحان الولاء بالانسحاق وقبول العار.
هل هي السادية والتلذذ بقهر اللبنانيين ما يمارسه أهل السياسة عندنا؟
مصطلح السادية يعود بالأصل إلى روايات الفرنسي المركيز دي ساد (1740 ـ 1815) حيث تتسم مشاعر وانفعالات شخصياته الروائية بمتعة قهر الشريك، فلا يحصل السادي على لذته المطلوبة بغير إيذاء الشريك وتفجيعه وإلحاق العنف المفرط به.
"الرفيق " جوزيف ستالين ( 1878ـ 1954)، بحسب عالم النفس الشهير أريك فروم ، يمثل النسخة الأكثر وضوحاً عن " السادية السياسية " ، إذ إنّه كان يعمل على طمأنة خصومه قبل أيام من إعدامهم ، ولما يسقط الأمان الستاليني على هؤلاء ، كان يأمر بإعدامهم ، ثم يتتبع أفعال الإعدام وكيفية إعدامهم واللحظات الأخيرة لهم، قبل الإعدام وبعده.
"الرفيق " الآخر ماو تسي تونغ ( 1893 ـ 1976) رغب في تحويل الصين إلى مجتمع صناعي ، فعمل على إجبار مئات ملايين الصينيين على ترك أعمالهم الزراعية وإلزامهم بالأعمال الصناعية،
فأخلى الأرياف وحشد سكانها في المدن ، وكانت النتيجة موت عشرات ملايين الصيينين جوعاً وقهرا.
"الرفيق " الثالث بول بوت (1928ـ 1998) رئيس كمبوديا ، سعى إلى نقيض ما فعله " رفيقه " ماو تسي تونغ ، إذ طمح إلى تحويل بلاده إلى مجتمع زراعي متخيل في ايديولوجية ذهنية ، فأمر بإخلاء المدن من سكانها ، وفي طريق تحقيق ذلك ، قتل الملايين ، فكانت كمبوديا هي الدولة الوحيدة التي تراجع عدد سكانها إلى نصف ما كانت عليه قبل وصول بول بوت إلى الحكم.
"الزعيم " أدولف هتلر ، أخذه جنون العظمة إلى اعتبار الجنس الآري فوق البشر ، فقتل من أبناء جنسه الألمان ما لذ وطاب له، وكلّ من لا يوافقه على عقيدته، ثم أبلى بلاءً وخيما بغزو جيرانه، فكانت الحرب العالمية الثانية حيث قتل خمسون مليون إنسان.
لا شفقة لدى الشخصية السادية
والرحمة يقابلها روح الإستمتاع بعذابات الآخرين، وتحقير البشر وعدم الِاعتراف بالخطأ وانعدام الثقة بالآخرين
من يفسر مشاعر أغلب أهل السياسة ؟ من يشرح عواطفهم ؟ من يفند أحاسيسهم ؟ من يمكنه أن يدخل إلى أعماق عقولهم ليقرأ كيف يفكرون وكيف يخططون وكيف ينظرون إلى الناس؟
سبق القول: إن الشخصية
السادية لا تُراجع أفكارها، ولا تعترف بأخطائها وتمارس الإنكار المطلق ، وعلى هذه الحال تنتقل بها الأحوال من خطإٍ إلى خطإ، ومع كل خطإٍ مستجدٍّ ينتج مأزق مستجد ، حتى تتراكم المآزق وتحل معها الكوارث والفظائع والأهوال.
ألم يحدث هذا كلّه في لبنان ؟
هل اعترف غالبية أهل السياسة بخطإٍ ما ؟ بنصف خطإ ؟ بربع خطإ؟
ماذا يبقى أمام الناس عندما يفكر أغلب السياسيين بهذه الطريقة ويأملون ؟.
يبقى أمام الناس الخضوع ، اليأس، الخنوع ، فقدان الأمل ، ويبقى أمام الناس العودة بطيبة خاطر أو بضربة فأس إلى نظام الطبقات ، نظام الأسياد والعبيد ، نظام يخير الناس بين الأمن المفقود والرغيف المفقود ، فيضطر الناس إلى اختيار الأمن لأنه الحد الأدنى من الحياة.
ربما يوافق الناس على أن يكونوا عبيداً لأهل السطوة ، ولكنّ أهل السطوة يريدون عبيداً جائعين وعطاشى ومرضى ومدمَّرين نفسيا، أهل السطوة يريدون أن يتلذذوا باحتضار عبيدهم، أن يتلذذوا بالاحتضار وهم لا يشبعون.
أسوأ أنواع العبيد نحن.