كتب الأستاذ حليم خاتون:
يتوهم البعض أن أحد أهم أسباب الأزمة في لبنان هو عزوف عزرائيل عن القيام بواجباته تجاه الطبقة السياسية الحاكمة في هذا البلد...
حيث أن كمية كبيرة من كبار رجال السلطة في لبنان هم في واقع الأمر في أعمار يجب بموجبها، أن يكونوا إما في المتاحف، أو في القبور، لكن بالتأكيد ليس على كراسي الحكم...
نفس الأمر ينطبق على كبار رجال مافيا الاحتكارات المالية والتجارية، سواء في المحروقات أو الدواء أو الصناعة الاسمنتية أو الشركات العائلية المختلفة التي استفادت من علاقات العمالة للسلطات العثمانية، ثم الانتداب الفرنسي وصولا إلى أيام جمهورية الموز وأيام سلطة منظمة التحرير الفلسطينية وبعدها نظام الوصاية السورية السعودية الأميركية الذي اوصل البلد إلى ما هو فيه من "جنان" يُحسَد عليها لبنان واللبنانيون...
من غير المعروف إذا كانت هذه سياسة عزرائيل فعلا، أم هي خطط إلهية لإعادة بناء العوالم...
فالرب استعمل الطوفان لتنظيف كوكبنا أيام نوح... وكذلك فعل مع ثمود واهلها...
حتى في الإتحاد السوفياتي، نلاحظ أن السنين الأخيرة ما قبل الإنهيار العظيم تميزت بحكم العجائز إلى درجة أن السوفيات كانوا يستغربون حين يظهر على منصة الكرملين من هو ليس في الثمانين أو التسعين من العمر...
وإذا نظرنا إلى اميركا في السنين الأخيرة، نجد أن الرب تقصد أن يأتي عجوز أحمق إلى الحكم، ثم يخلفه بعدها عجوز آخر مصاب بالزهايمر... عجوز انسحب من أفغانستان ونسي هناك حتى رجال الاستخبارات الاميركيين المتخفًين في ملابس مدنية...
لكن لبنان شيء آخر فعلا...
في لبنان، فرخ البط عوّام...
لقد انعم الله على هذا البلد بابناء وأحفاد تفوقوا على آبائهم وأجدادهم في صفقات النهب، إلى درجة يصعب تصديقها.
لقد تكرم بعضهم بجلب لصوص من الهيئات المصرفية المحلية والعالمية حتى تتم (بوطة لعب ورق البوكر) على مصير لبنان...
رفيق الحريري جلب لنا رياض سلامة، وجهاد أزعور وغيرهم خوفا من أن لا يستطيع سعد وبهاء وفؤاد السنيورة القيام باستكمال عمليات هدم بناء الدولة وبيعها بالقطعة لقوى الشر في العالم...
لذلك، يجب عدم وضع كل اللوم على عزرائيل وعلى الرب الذي لم يأخذ ودائعه من العجائز... ففي هذا ربما حكمة...
لأن (الشطارة اللبنانية) أنتجت جيلا انتشر في بلاد المعمورة وقام بنهبها، قبل أن يكتشف أن من بقي من هذا الجيل في لبنان، هو ألعن بملايين المرات من كل ما يمكن تصوره من نذالة وحقارة تعجز كل لغات الارض عن وصفها...
أما آخر ما تفتقت عنه عبقرية البرلمان برئاسة الرئيس نبيه بري ورئيس الجمهورية ميشال عون وحاكم المصرف المركزي وحكومة التصريف المشلول...
فهو أن الحل يأتي عن طريقين:
الأول، هو بتأليف حكومة على شاكلة كل حكومات ما بعد الطائف، دون أن يفهم اللبناني بماذا سوف تتميز هذه الحكومة الآتية، إذا أتت، عن كل الحكومات التي سبقتها، إذا لم تكن حتى ألعن منها...
والثاني، هو بإمداد مافيا السلطة والاحتكارات بمبلغ ٢٢٥ مليون دولار لمدة شهر... يتم أثناءها تخدير الناس عن الحلول الفعلية الواجب اتخاذها، وتكون هذه الملايين مصلا جديدا يساهم في استمرار شريان الحياة في جسد هذه المافيا المتعفن...
شيء من المنطق أيها اللبنانيون..
التنكة كانت ب٣٠ و ٤٠ ألف على أساس سعر ١٥٠٠ ليرة للدولار...
وكان يجري بيعها في السوق السوداء ب٧٠ و٨٠ ألف ليرة...
أي أن نسبة ارباح مافيا الاحتكار في السوق السوداء وحدها كانت تزيد على ١٠٠٪...
جرى رمي حوالي ٨٥٠ مليون دولار خلال أقل من شهرين استولت عليها مافيا المحروقات على أساس سعر ٣٩٠٠ ليرة للدولار... وصُوًر للبنانيين ان هذا هو الحل...
ارتفع سعر التنكة في السوق السوداء إلى حوالي ٢٥٠ ألف ليرة لتصل أحيانا إلى ٥٠٠ ألف...
أي أن المافيا "قرطت" ال ٨٥٠ مليون دولار ثم عادت لتبيع البنزين بربح تراوح بين ال١٠٠٪ و ٧٠٠٪.... ويقال إن بعض المغتربين الاثرياء دفعوا حوالي مليون ليرة ثمنا للتنكة الواحدة... أي حوالي ١٥ ضعف السعر الرسمي...
أمس أتحفنا رئيس الجمهورية بالحل العبقري، دون أن يرف له جفن!!!...
هدية إلى مافيا المحروقات لمدة شهر، ٢٢٥ مليون دولار، ليُصار بعدها العمل من داخل السوق السوداء، حيث لا نعرف إلى اين سوف يصل سعر الدولار وإلى اين سوف يصل سعر التنكة، بهمة الرئيس والحاكم والوزارات على اختلافها...
في النهاية تقوم شركات الاحتكار بالسيطرة على كل مبلغ الدعم ثم تقوم بتوزيع المحروقات على صغار اللصوص من المحتكرين من أجل المرحلة الثانية من السرقة والنصب...
ثم يخرج علينا شيخ يحمل غالونا ليعلن حرمة هذا الاحتكار وعدم شرعيته دنيويا ودينيا...
لكن أحدا لا يسمي الشركات الكبيرة التي أخذت ملايين الدولارات من المصرف المركزي قبل أن تلجأ إلى الوسائط من صغار المحتكرين...
قد يكون هذا الشيخ فعلا لا يعرف اسماء الشركات... لكن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب والرئيس المكلف والوزير في تصريف الأعمال، والحاكم بأمر الله في المصرف المركزي... كل هؤلاء يعرفون الأسماء كلها...
كل اسماء أصحاب شركات الإحتكار التي تتولى من بعيد عملية التسويق في السوق السوداء...
مرة أخرى سوف يتم استغلال الهبل المنتشر عند شعب لبنان العظيم...
حيث تُصادر أموال المودعين لصالح نفس الطغمة الحاكمة...
فلنقلها بصراحة...
لا الرئيس عون، ولا الرئيس نبيه بري... ولا الحاكم، ولا وزير الاقتصاد ولا وزير الطاقة ولا وزير المالية غرباء عن كل ما يحصل...
أساسا كل صغار المحتكرين يتبعون لهم ولتيار المستقبل والقوات اللبنانية وبقية الإئتلاف السلطوي في لبنان الذي حتى لو كان في المعارضة تبقى حصته محفوظة في جبنة الدولة...
كل هؤلاء، سواء كانوا موالين أو معارضين؛ كل هؤلاء شركاء في السوق السوداء...
هل كان صعبا على ميشال عون أن يلبس قناع قيس سعيًد ويتصرف بفروسية مثله...؟
نفس الأمر ينطبق على بقية الرؤوس المتآمرة... إذا ما العمل؟
ما قام به حزب الله من التجرؤ على كسر الحصار وكسر العقوبات الإمبريالية على لبنان، عمل عظيم جدا... لكن ليس بالمازوت والبنزين وحدهما يحيا الإنسان...
خطوة السيد حسن توجت صبرا زاد كثيرا عن الحدً، إلى درجة كادت تصيب جمهور المقاومة بالإحباط...
لكن، أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي ابدا...
تصريح السيد في كسر الحصار الأميركي الصهيوني العربي يشابه كثيرا صفقة السلاح التشيكية التي عقدها الرئيس جمال عبد الناصر، حين كسر احتكار بيع السلاح الذي كان مقتصرا على دول الغرب الإمبريالي... والذي كان يرفض أن يبيع مصر ما تحتاجه فعلا من أسلحة للدفاع عن نفسها...
يومها، فهم عبد الناصر أهمية التوجه شرقا، حيث استطاعت الجمهورية العربية المتحدة قيادة منظومة دول عدم الانحياز وفرض موقع متميز لمصر قبل أن يقوم محمد انور السادات، بكل الغباء الذي كان يميزه، بتحطيم ذلك الموقع وقوقعة مصر داخل جمهورية موز تعيش على الشحادة بعد أن كانت تنافس كوريا الجنوبية في الصناعة وتتشارك مع الهند في إنتاج المقاتلات، وتصنع اول الصواريخ التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط بالتعاون مع جمهورية ألمانيا الديموقراطية...
لكن السؤال هل هذا يكفي... رغم عدم الانتقاص من اهميته؟؟
بالتأكيد لا...
وحتى لا تمر الأيام ونجد أنفسنا نحرم الشعب الإيراني العظيم من ثروته لصالح جماعة الاحتكار المحلي الإقليمي الدولي... على حزب الله أن يكمل الطريق الذي بدأه... على حزب الله أن يستتبع هذه الخطوة بخطوات اكبر...
يجب خوض حرب كسر الحصار حتى الاخير...
يجب البدء عمليا باستلام السلطة...
لا يمكن البقاء داخل سلطة فاسدة شريرة تنهب الشعب كالمنشار...
إما أخذ السلطة أو الانسحاب منها وعدم تغطيتها... ولتكن الكلمة الأخيرة للشعب، دون التدخل والطلب إليه الإنزواء في البيوت...
يجب تحرير الذهب واستعماله لبناء المعامل الثلاثة لإنتاج الكهرباء... وكل تبريرات الفشل مرفوضة سلفا...
يجب رفع الدعم بشكل كامل، مع استعمال الذهب لتغطية صحية شاملة لكل اللبنانيين يترافق مع تجهيز كل المستشفيات الحكومية والاستغتاء نهائيا عن الاستشفاء الصحي في المستشفيات الخاصة على حساب وزارة الصحة...
يُضاف إلى هذا، تغطية تربوية وتعليمية كاملة لكل التلامذة والطلاب في المدارس والجامعات العامة... وإقامة نقل مشترك عام ....
هذه الخطوات وحدها كفيلة بإراحة جيوب العائلات اللبنانيين من أكثر من ٤٠ إلى ٥٠٪ من الأعباء المعيشية...
هذا اهم ألف مرة من البطاقة التمويلية التي سوف تزيد التبعية الزبائنية بين الناس وأحزاب السلطة والمعارضة المسخرة التي تمثلها الكثير من الأحزاب والقوى...
لا يريد اي كان الانتقاص مما يقوم به حزب المقاومة...
لكن من حقنا العودة إلى المطالبة ببرنامج واضح وتخطيط على مراحل يعمل على انتشال الدولة من ايدي المتسلّطين عليها...
ومرة أخرى وأخرى، لا يستطيع أي حزب مهما بلغت قداسة قضاياه، الفصل بين عمليتي التحرير الوطني والقومي... والتحرر الوطني والقومي الذي يجب أن تكون إعادة بناء الدولة من أهم أهدافه...
صحيح أن الامبريالية، بكل أذرعها، تحاول جاهدة إغراق حزب الله في حروب أهلية لا تنتهي... لكن مواجهة هذه المؤامرة يكون بالتصدي لها وليس الهروب منها...
يحذرنا سمير جعجع ووليد جنبلاط من تكرار ما حدث في شويا مع المجاهدين في مناطق أخرى من لبنان...
الرد على شويا، يجب أن يكون كما كان الرد في معلولا وحمص وحلب...
كما هزمنا الإمبريالية في سوريا فجُن جنونها... علينا أن نهزمها في كل بقعة عربية شريفة على امتداد العالم العربي وإفريقيا وآسيا، وأميركا اللاتينية....
نحن نملك مظلة واسعة من الصداقات النضالية مع شعوب هذا العالم المظلوم والذي يتعرض بدوره لما نتعرض نحن له على أيدي الاستعمار الذي يستفرد بنا دولة دولة، وفئة فئة...
هو جُن جنونه حين اندفعت المقاومة للتصدي له في سوريا اندفاعة غريزية، وهزمته...
لذلك، يستشرس علينا في لبنان كي لا تعم التجربة التي حصلت كامل هذه الأوطان...
بكل أسف يبدو أن بعض القيادات في حزب الله لا تعطي الانتصارات التي تحققت سنة ٢٠٠٠ و٢٠٠٦ في لبنان، والانتصار العظيم الذي حدث في سوريا والنجاح العظيم في إعادة تصويب بوصلة غزة بفضل هذه الانتصارات وبفضل الشعب الفلسطيني داخل ال ٤٨ والذي كان أكثر وعيا من الكثير من قيادات حماس حين رفض المؤامرة على سوريا وقرأ أهدافها الحقيقية التي تخدم أعداء الأمة لا غير....
نعم، إذا بقي حزب الله متقوقعا داخل مذهب واحد أو دين واحد، ولا يحاول الانطلاق في رحاب الله الواسعة.... بالتأكيد سوف يخسر عند أول حرب أهلية....
أما عندما يتسلح بنفس السلاح الوطني والقومي ولا يسمح لتجار الدين والمذهبية من أمثال تركيا وقطر والإخوان المسلمين...
باختراق الصفوف كما حصل سابقا...
عندها، سوف ينجح بالتأكيد... وسوف يطرد الأميركيين وكل أذنابهم من أمثال النصرة وقسد وغيرها من العملاء والخونة...
باختصار،
لبنان هو اليوم ساحة النزال الحقيقية...
في لبنان يتقرر مصير
النضال...
إما نصر نهائي ينتهي بطرد الأميركيين ومعهم كنتيجة حتمية، طرد الصهاينة...
وإما انتصار الإمبريالية وعودتنا إلى أوضاع أسوأ أكثر واكثر بأضعاف مضاعفة من كل ما رأيناه أو عشناه حتى اليوم من ذل قومي ويتم ليس فقط توطين اللاجئين والنازحين... بل يتم مصادرة اراض وبلاد أخرى وتهجير آخر وذل وهوان آخرين...
كل ذلك بانتظار خروج قيادة اكثر جذرية لا ترتكب الاخطاء وتعمل على إقامة جبهة نضال وتحرير واحدة عابرة للطوائف، كاسحة للمذاهب، وكل همها وحدة الشعب وليس وحدة الفاسدين والسارقين والناهبين ...