كتب الأستاذ محمد النوباني:
تحل يوم غد الثلاثاء الذكرى السنوية 104لقيام بريطانيا بإصدار وعد بلفور المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين والذي تم إدراجه في صك الإنتداب البريطاني على فلسطين في 11 سبتمبر عام 1922 وتوج بتمكين العصابات الصهيونية من اقامة ما اصبح يعرف بإسرائيل في الخامس عشر من ايار عام١٩٤٨.
فهذا الوعد الذي اعطي من قبل لا يملك إلى من لا يستحق دخل التاريخ كواحد من ابشع الجرائم التي ارتكبتها الإمبريالية البريطانية ضد الشعوب حيث ترتب عليه سرقة وطن بأكمله من اصحابه الشرعيين وتحويلهم الى لاجئين وتمزيق نسيجهم الاجتماعي وتدمير مدنهم وقراهم وتحطيم اقتصادهم، وقتل مئات الآلاف منهم.بدم بارد.
وبدلا من ان تعترف الحكومات البريطانية المتعاقبة وآخرها حكومة بوريس جونسون وقبلها حكومة تيريزا مصاي بمسؤولية بريطانيا عن هذه الجريمة المروعة التي أسست لاعتراف ترامب بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل ولقرار ضم الجولان، وتوافق على الاعتذار للفلسطينيين عنها، ودفع تعويضات لهم عن نتائجها، فإنها تواصل تنصلها ليس من تحمل مسؤوليتها الاخلاقية عما حل بالشعب الفلسطيني من كارثة مستمرة بل وتفتخر بدور بريطانيا في اقامة اسرائيل .
إن هذا الموقف الرسمي البريطاني يؤكد بان لندن هي المسؤولة رقم واحد عن المأساة الفلسطينية برمتها، وعن كل قطرة دم فلسطينية أريقت وتراق حتى يومنا هذا على يد الاحتلال الاسرائيلي. فلولا بريطانيا المجرمة لما قامت إسرائيل، ولولاها شرد الشعب الفلسطيني عن وطنه ولولا تآمرها مع فرنسا والولايات المتحدة الامريكية لما حرمت الشعوب العربية من انجاز وحدتها القومية وولوج طريق التقدم والإزدهار. ومما يغيظ أن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة الشمطاء تيريزا ماي كانت قد رفضت في بيان رسمي اصدرته عشية الذكرى المئوية لصدور وعد بلفور عام 2017 رفضها الاعتذار للشعب الفلسطيني عن إصداره متذرعة بأن الوعد المذكور هو موضوع تاريخي ولا نية لها بالاعتذار عنه حين أنه تم الإعتذار ،عما يسمى "بالهولوكوست" وتجريم من يشكك بحصوله رغم انه موضوع تاريخي أيضاً ؟!..
وحتى نوضح الأمور اكثر فان دور بريطانيا في اقامة اسرائيل لم يقتصر على اطلاق الوعد بل تعداه الى بناء اسرائيل لبنة لبنة وكتفا الى كتف بالتعاون مع العصابات الصهيونية منذ احتلال القوات البريطانية لفلسطين في التاسع من كانون الاول 1917 بقيادة الجنرال “ادموند اللمبي ” وفرض الانتداب البريطاني عليها في 25 نيسان 1922 وحتى جلاء القوات البريطانية عن فلسطين وتسليمها للعصابات الصهيونية في 15 ايار 1948 .
وبإختصار فقد قمعت القوات البريطانية بالحديد والنار كل الانتفاضات والثورات البطولية التي فجرها الشعب الفلسطيني ضد الانتداب البريطاني والغزوة الصهيونية لبلادهم، ومكنت الصهاينة من بناء مؤسسات “الوطن القومي اليهودي” تحت رعاية وحماية قوات الانتداب البريطاني.
وعود على بدء فقد كتب الكثير عن السبب او الاسباب التي حدت بحكومة ” لويد جورج ” الى اصدار وعد بلفور فبعض تلك الكتابات ادعى أصحابها بان الوعد كان هدية بريطانية ” لحاييم وايزمن” لانه اخترع مادة “الاسيتون” التي تدخل في صناعة المتفجرات وقذائف المدفعية، وقال البعض الآخر بانه صدر لدفع يهود الولايات المتحدة الاميركية للضغط على حكومة بلادهم، للدخول في الحرب العالمية الثانية .
ولكن السبب الحقيقي ليس هذا ولا ذاك وانما هو السبب الاستعماري المتمثل بوجود مصلحة لبريطانيا في استزراع كيان استعماري استيطاني كولنيالي في قلب المنطقة التي خضعت للاحتلال البريطاني بموجب اتفاقية “سايس بيكو” المبرمة عام 1916 بين بريطانيا وفرنسا لاقتسام الوطن العربي بين الدولتين الاستعماريتين بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية الامر الذي حصل فعلا على ضوء نتائج الحرب العالمية الاولى.
فوعد بلفور هو محصلة او ثمرة لتلاقي مصالح الحركة الصهيونية التي تأسست على يد تيودور هيرتزل في مؤتمر بازل في 29 آب عام 1897 مع مصالح الامبريالية البريطانية لإحكام السيطرة على الشرق الاوسط.
ورغم انه جرت محاولة للإستناد إلى الأساطير الدينية لتبرير قيام اسرائيل ولدفع اليهود لترك اوطانهم والهجرة إلى فلسطين فإن مشروع هيرتزل كان من الفه إلى يائه مشروعاً استعماريا استيطانيا كولنياليا، لجني الأرباح، وليس لتحقيق حلم تاريخي باقامة وطن قومي لليهود على قاعدة حق تقرير مصير واقامة دولة لهذه المجموعة العرقية او على اساس ديني حيث كان يقول ” انني لا انقاد لأي دافع ديني “.
وقد عبر عن هذه الحقيقة الفيلسوف الفرنسي المسلم، الراحل “روجيه جارودي ” في كتابه ” الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية ” حينما قال في الصفحة ” 18″ من الترجمة العربية، بان الصهيونية هي عقيدة استعمارية كانت ترمي كخطوة اولى الى تحقيق” شركة ذات امتيازات خاصة ” تحت حماية انجلترا او اي قوة اخرى في انتظار تحويلها الى دولة يهودية.
ولهذا السبب كان تيودور هيرتزل توجه نحو من اتضحت مهارته في هذا النوع من العمليات وهو المتاجر الاستعماري “سيسيل رودس ” الذي استطاع انطلاقا من شركته ذات الامتيازات وتحويلها إلى دولة جنوب افريقيا، التي كانت إحدى عناصرها تسمى باسمه “روديسيا” حيث كتب إليه تيودور هيرتزل في 11كانون ثاني 1902 ما يلي: ” أرجوك ان ترسل لي نصا يقول انك فحصت برنامجي وانك توافق عليه، متسائلا لماذا اكتب اليك يا سيد رودس . ذلك ان برنامجي هو استعماري “.
وقد بقي مشروع هيرتزل الاستعماري يراوح في المكان الى ان تبنته حكومة لويد جورج بالاتفاق مع البارون المالي الكبير اللورد “ليونيل والتر روتشيلد” بصفقة واضحة تخدم مصالح الطرفين الاستعمارية والاستثمارية في 2/11/1917 من خلال وعد بلفور .
ولكي نوضح الأمور أكثر، فان “ليونيل روتشيلد” كان المسؤول عن فرع عائلة روتشيلد في انجلترا، وهي أسرة مصرفية يهودية، أصلها من مدينة فرانكفورت الألمانية كما كان ليونيل اول عضو يهودي في البرلمان الانجليزي، وزعيم الطائفة اليهودية الانجليزية، اشترك في عمليات مالية مهمة في بريطانيا من بينها تدبير قرض قيمته 16 مليون جنيه لتمويل حرب القرم، كما قدم التمويل اللازم “لدزرائيلي” رئيس وزراء بريطانيا، الذي كانت تربطه به صداقة وثيقة لشراء نصيب مصر في أسهم قناة السويس عام 1875، وهي عملية تمت بكتمان وسرية تامة بعيدا عن الخزانة البريطانية، ولم يبلغ البرلمان البريطاني بها الا بعد اتمامها، ولا شك بان مساهمة آل روتشيلد في تقديم القروض للخديوي اسماعيل ولأعيان مصر، وما تبع ذلك من تضخم المديونية المالية المصرية ثم ما جر ذلك وراءه من امتيازات أجنبية ثم تدخل بريطانيا في نهاية الأمر بحجة حماية الخديوي توفيق من الثورة العرابية، كل ذلك تم في إطار المصالح الامبريالية للرأسمالية التي كانت تسعى لفصل أهم أجزاء الإمبراطورية العثمانية عنها تمهيدا لتحطيمها وتقسيمها .
ومن الجدير بالذكر ان عائلة روتشيلد كانت في البداية رافضة لصهيونية هيرتزل السياسية، مثلها مثل غيرها من عائلات اليهود الثرية، بسبب تخوفهم مما قد تثيره من ازدواج في الولاء، وهو ما يشكل تهديدا لمكانتهم ووضعهم الاجتماعي لكن هذا الموقف قد تبدل فيما بعد حين تبين ان استزراع كيان استيطاني في فلسطين سوف يخدم مصالح أسرة روتشيلد ومصالح الإمبراطورية البريطانية وليس حب بريطانيا باليهود .
فأحاسيس إنسانية معنية مثل كره أو حب هذه المجموعة العرقية او تلك من قبل هذا الزعيم السياسي او ذاك ليست هي العامل الحاسم والمقرر في نهاية المطاف في رسم سياسته الخارجية، بقدر ما هي مصالحه الطبقية ومع من تكمن ؟ بدليل ان اللورد آرثر بلفور الذي أصدر الوعد المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كان يوصف من قبل يهود بريطانيا بانه معاد للسامية ولذلك فقد توجسوا وخشوا بان يكون الهدف من إصدار وعده هو ترحيلهم عن بريطانيا .
ومع ذلك فقد دخل بلفور التاريخ بصفته احد أهم السياسيين الغربيين الذين أقاموا المدماك الأساس والاهم في صرح اسرائيل المعاصرة.
في الختام فإن كل من وقع، من الفلسطينيين و العرب على إتفاقات ومعاهدات سلام مع إسرائيل هو شريك في وعد بلفور .