في أحد أيام الجمعة قبل عامين ، اعترف الرئيس دونالد ترامب رسمياً بالقدس عاصمةً لإسرائيل ، و قد أدركنا حينها أن هذا كان عملاً غير مسؤولٍ و قاسٍ و غير حساس من شأنه إلحاق ضررٍ جسيم بحقوق الفلسطينيين و مستقبلهم ، و وضع حدٍ لأي ادعاءٍ أمريكي أو عربي بأن الولايات المتحدة يمكن أن تساعد في التفاوض على إنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني أو إيجاد حل أو خارطة طريق ممكنة لعملية السلام في الشرق الأوسط . فما لم نعرفه هو أن هذه الخطوة الخطيرة كانت مجرد بدايةٍ لسلسلة الأضرار الدائمة التي سيسببها ترامب للحقوق الفلسطينية و آفاق عملية السلام .
فخلال العامين الماضيين ، أغلقت إدارة ترامب القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية ، كما قامت بإغلاق المكتب القنصلي الفلسطيني في العاصمة الأمريكية واشنطن و مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ، ثم قامت بتعليق المساعدات للفلسطينيين و وقف دعم المنظمات الأمريكية غير الحكومية العاملة في الضفة الغربية و قطاع غزة ، ثم تلا الأمر رفض تمويل الأونروا ، وكالة الأمم المتحدة التي تقدم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين ، ثم حذف مصطلح " الأراضي المحتلة " من جميع المنشورات و البيانات الرسمية المتعلقة بالأراضي الفلسطينية المحتلة ، و قبل أيام أعلن ترامب أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ليست "غير شرعية" كما كان يتم تصنيفها سابقاً . بل و ذهب بعيداً بإنكاره بأن الفلسطينيين لا يجب أن يصنفوا كلاجئين بعد الآن و أن يتم توطينهم في محل إقامتهم .
فبينما كل قرارٍ من قراراته تلك تعتبر مشكلةً قائمة بحد ذاتها ، إلا أنه يضاف إلى كل ذلك أن الخسائر التي قد يتعرض لها الشعب الفلسطيني يمكن أن تكون في النهاية مدمرةً و غير قابلة للإصلاح ، تماماً كما حصل في عام مثل 1948 عندما تم تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه ، و ما سمي بالنكبة . مما يثير نذير شؤمٍ بأن كل تلك القرارات المجحفة الساعية للقضاء على القضية الفلسطينية و قضية اللاجئين قد تؤدي بالشعب الفلسطيني لنكبةٍ ثانية .
ففي غضون فترةٍ قصيرة لم تتجاوز العامين ، حاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب و إدارته إحباط و إفشال جميع المكاسب التي حققها الفلسطينيون خلال العقود السبعة الماضية . و لأن الولايات المتحدة قامت بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية و أنكرت أن اللاجئين الفلسطينيين هم في الواقع لاجئون و بالتالي فهم جزءٌ لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ، فإن الولايات المتحدة تقول بأنها لم تعد ترى الفلسطينيين كمجتمع وطني يستحق الاعتراف به ، و لا يستحق الحق في تقرير المصير.
ولأن الولايات المتحدة سبق أن حققت مراراً وتكراراً كل نزوةٍ إسرائيلية، فيما يتعلق بالقدس واللاجئين والمستوطنات ، فقد تركت الفلسطينيين عرضةً بشكلٍ خاص بين كماشة الإجراءات الإسرائيلية المتطرفة والمتشددة ، والتي شملت الضم، والاستيلاء على الأراضي و البيوت على نطاق واسع ، وحتى الطرد الكامل من الأرضي المحتلة .
ولأن الإدارة الأمريكية دائماً ما تباهت باحتقارها لسيادة القانون ومعايير المجتمع الدولي، فقد أوجدت عالماً أكثر خطورةً وهشاشة يمكن أن تتصرف فيه أي قوة إقليمية تدعمها الولايات المتحدة كما يحلو لها دون عقاب ، ودون أن تخشى من أن تعاني من تداعيات كردود فعل على أفعالها على الإطلاق، تماماً كما تفعل إسرائيل التي تحصل على الدعم الأمريكي غير المشروط .
أتساءل في بعض الأحيان ، إذا كان هذا هو ما يفترض أن تبدو عليه " صفقة القرن " ، فربما، كان القصد منها طوال الوقت أن يكون مجمل ما قاموا به خلال العامين الماضيين ، يهدف إلى إنشاء نظامٍ عدمي يكون فيه الإسرائيليون أحراراً في التصرف بأكثر تخيلاتهم تطرفاً بينما يضطر الفلسطينيون المستضعفون إلى العيش والتعايش في عالمٍ خياليٍ من الديستوبيا الإسرائيلية العنصرية، دون أن يتمتعوا بأي حقوقٍ أو يجدون أي جهة يلجؤون إليها لإنصافهم . ولهذا السبب أقترح أن التأثير التراكمي لما فعله ترامب خلق الظروف لنكبةٍ ثانية هي في طريقها للشعب الفلسطيني .
بالطبع ، هناك طرقٌ مفتوحةٌ أمامنا لتجنب مثل هذه الكارثة الإنسانية والتاريخية بحق شعبنا . ففي حين أن الولايات المتحدة خلقت هذه الفوضى من تلقاء نفسها ، فقد رفضت الدول العربية والأغلبية الساحقة من دول العالم كل تحركاتها وقراراتها الغير شرعية .
فعلى سبيل المثال ، لم يكن هناك سوى القليل من الدول ذات التبعية الأمريكية البسيطة التي فكرت في الانضمام إلى الولايات المتحدة في نقل سفاراتها إلى القدس ، وخلال الشهر الماضي ، أكدت الأمم المتحدة مجدداً دعمها للأونروا بتصويتٍ ضم 170 صوتاً مقابل صوتين معارضين ، وهما الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل . ثم كانت هناك حالة استنكارٍ عامة من جانب الدول العربية والأوروبيين حول الموقف الأمريكي الجديد من المستوطنات الإسرائيلية .
المشكلة هي أنه في حين أصبحت إدارة ترامب معزولةً سياسياً بشكلٍ متزايد بسبب سلوكها المتهور، إلا أنها لم تواجه تحدياً فعالاً أو فعلاً رادعاً لها . حيث أن تغيير دوامة الهبوط الحالية التي تتكشف في الساحة الإسرائيلية-الفلسطينية يتطلب مواجهةً جريئة في وجه الولايات المتحدة وإسرائيل .
فلن تكفي البيانات أو القرارات لأنها تُرفض و تُهمل بشكل روتيني . فالمطلوب هو أن تقول الدول الأخرى بكل صراحة "أن هذا يكفي"، و أن تخبر الولايات المتحدة أن أيام هيمنتها على "عملية السلام" قد انتهت . ويجب عليها أيضاً مواجهة إسرائيل وإجبارها على دفع ثمن سلوكها الخارج عن القانون والانتهاكات المنهجية الصارخة لحقوق الإنسان الفلسطينية .
و بالطبع ، سيكون الرد الفلسطيني الموحد الذي يستخدم حملة المقاومة السلمية أمراً مهماً أيضاً، ولكني أتردد في التركيز على هذا العامل لسببين أساسيين هما :
فأولاً ، لا ينبغي أن يقع عبء القيام بالأعباء الثقيلة على أضعف طرفٍ في النزاع ، وحتى لو ثار الفلسطينيون ، كما فعلوا من قبل ، ما لم تكن دول العالم على استعدادٍ لتحدي كل من الولايات المتحدة وإسرائيل ، فإن مقاومتهم ستنتهي بنهايةٍ دموية في أول مواجهة أو قمع إسرائيلي أو أمريكي لهم .
الوقت يداهمنا ، فإذا لم يتم اتخاذ إجراءٍ فعليٍ لكبح جماح الولايات المتحدة و إسرائيل قريباً ، فقد نرى نكبةً ثانية ، و التي قد تكون أكثر كارثيةً و تدميراً على الشعب الفلسطيني . و في حالة حدوث ذلك ، فإن مسؤولية هذه المأساة لن تقع على كاهل الإسرائيليين الذين ينفذونها و على كاهل الولايات المتحدة التي ساعدتهم و حرضتهم فحسب ، بل ستقع على كاهل جميع دول العالم التي فشلت في التحرك في الوقت المناسب لمنع حدوث هذه المأساة و بقيت متفرجةً على الحياد .
الكاتب : جيمس زغبي - رئيس المعهد العربي الأمريكي