علي بن مسعود المعشني
برحيل الفريق أحمد قائد صالح رئيس أركان الجيش الوطني الجزائري ونائب وزير الدفاع، وتشييعه شعبيًّا ورسميًّا في جنازة لم تشهدها الجزائر إلا في رحيل زعيمها الرئيس هواري أبو مدين عام 1978م، لابد للمتابع وغير المتابع كذلك من معرفة وتوضيح رمزية الفريق صالح والمؤسسة التي يمثلها في الوجدان والعقل الجمعي الجزائري أولًا، والدور الوطني المميز الذي قام به الفريق صالح وطاقمه حتى يسجله تاريخ الجزائر الحديث ومؤسستها العسكرية بأحرف من نور.
باختصار شديد، يمكن القول إنَّ الفريق أحمد قائد صالح هو من قاد معارك استقلال الجزائر الثانية، هذه المعارك التي دارت رحاها في كواليس السلطة الجزائرية ذاتها للفرز ما بين عناوين وأضداد كثيرة، أعاقت طويلًا حسم هوية الجزائر وثوابتها الحضارية والسياسية وخططها التنموية، وزاد من وطأة ذلك سياسات الترحيل التي مارسها جميع العابرين على سًدة الحكم بالجزائر وبلا استثناء منذ استقلالها في 5 يوليو 1962م ترهيبًا وترغيبًا.
خضع استقلال الجزائر لاستفتاء شعبي عام كانت نتيجته تصويت 97% من الجزائريين لصالح الاستقلال عن فرنسا، و%3 مع بقاء الجزائر تحت الإدارة الفرنسية. الغريب في الأمر أن نسبة الـ3% هم من سيطروا على مقدرات الدولة الجزائرية بعد الاستقلال بشكل أو بآخر، وتجسد ذلك عبر العبث بمكونات الهوية الجزائرية الكبرى العروبة والاسلام، وتفتيتهما بين عرب وأمازيغ وانتماء إسلامي وإفريقي سعيًا إلى طمس الهوية الحقيقية بل وتشويهها، ومحاربة الهوية اللغوية العربية للجزائر، وتمكين لغة المستعمر بحجج واهية منها آثار الاستعمار واللحاق بركب التطور العلمي عبر لغة حية كاللغة الفرنسية، رغم ولادة أجيال جزائرية بعد الاستقلال في ظل منظومة مناهج تعليم عربية، وثبوت ضعف اللغة الفرنسية وضحالتها أمام اللغة الإنجليزية في المجالين العلمي والإدارة الدولية.
أخطر ما واجه جزائر الاستقلال على الإطلاق هم "عصابة" من عُرفوا بضباط فرنسا، وهم الضباط الجزائريون الذين عملوا في الجيش الفرنسي لسنوات طويلة، والتحقوا بالثورة الجزائرية قبيل الاستقلال بسنوات، أو بأشهر قليلة، وبعد الشروع في مراحل مفاوضات "إيفيان" بين رموز جبهة التحرير الجزائرية والسلطات الفرنسية؛ حيث كان وضع هؤلاء الضباط لاحقًا أشبه بالطابور الخامس لفرنسا وبطلقاء مكة في التاريخ الإسلامي.
أبرز هؤلاء الضباط هم الجنرالات: عبد القادر شابو، وكان من المعروفين بولائهم لفرنسا أبًّا عن جد؛ فقد استغل منصبه كأمين عام لوزارة الدفاع، وقام بزج الكثير من ضباط فرنسا في الجيش، قبل أن يلقى مصرعه في حادث سقوط مروحية عام 1971م. كما عُين عبدالمجيد علاهم، وهو من ضباط فرنسا أيضا، رئيسا للتشريفات الخاصة للرئاسة في عهد الرئيس أبومدين، وهو المتهم بوضع السم للرئيس أبومدين، والذي أدى لوفاته في 27 ديسمبر 1978م؛ كونه كان كاتم أسراره، والشخص الوحيد الذي يدخل بيته.
برزت القوة المُفرطة لطلقاء الاستقلال وسيطرتهم المُطلقة في عهد الرئيس (التوافقي) الشاذلي بن جديد (1992-1979)، وتسليمه أكثر شؤون الحكم للجنرال العربي بلخير، الملصق به، تحت مسمى، أمين عام رئاسة الجمهورية، حتى سيطروا على الجيش الجزائري، خاصة بعد عام 1989م، بعد أن تخلى لهم الشاذلي عن منصب وزير الدفاع، الذي كان يشغله منذ العام 1979م (وفق الدستور الجزائري)؛ فخلال هذه الفترة تمكّنوا من ترقية الكثيرين من أتباعهم لمناصب عليا، وصارت لهم الكلمة العليا في قيادة البلاد، وظهر ذلك بوضوح بعد توقيف الانتخابات عام 1992م، عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية، وإقالة الرئيس الشاذلي، وكان رموز هذه العملية الانقلابية، من جنرالات فرنسا؛ وهم: خالد نزار وزير الدفاع، والعربي بلخير وزير الداخلية، وعبدالمالك قنايزيه رئيس الأركان، ومحمد العماري قائد القوات البرية وعباس غزيل قائد الدرك الوطني ومحمد مدين المدعو توفيق رئيس المخابرات ومحمد التواتي مستشار وزير الدفاع، وحسين آيت عبد السلام مسؤول الصناعة العسكرية.
كانت أولى محاولات تطهير الجيش من ضباط فرنسا على يد العقيد المغدور محمد شعباني قائد الناحية السادسة في الجيش الجزائري والذي كان أول ضابط جزائري يحمل رتبة عقيد في تاريخ المؤسسة العسكرية وأصغر ضابط يحملها كذلك (30 عامًا)؛ حيث دعى المذكور وبقوة عام 1964م إلى ضرورة تطهير الجيش الوطني الجزائري من هذه العناصر الدخيلة عليه وحذر من وجودها واستمرارها في هذه المؤسسة الوطنية في دولة الاستقلال، فلفقت له تهمة الخيانة العظمى وتهديد لُحمة التراب الوطني وحكم عليه بالإعدام في العام ذاته. ومن مفارقات القدر أنَّ من لفق التهمة وحقق وحكم ونفذ الإعدام بحق شعباني كلهم من ضباط فرنسا!
وفي العام 1984م، أتى دور الرجل القوي في المؤسسة العسكرية الجزائرية اللواء "الأسطورة" مصطفى بلوصيف، والذي كان رئيسًا للأركان العامة للجيش الوطني الجزائري وأمينًا عامًّا لوزارة الدفاع وعضوًا بالمكتب السياسي لحزب جبهة التحرير، أعلى سًلطة سياسية وتنفيذية في الجزائر ويتكون من 12 عضوًا.
وكان اللواء بلوصيف أول ضابط في تاريخ الجيش الجزائري يحمل رتبة لواء كما كان أصغر لواء في تاريخ الجيش الجزائري كذلك (42 عامًا)، وكان يتمتع بصفات قيادية استثنائية والمرشح الأقوى لخلافة الرئيس الشاذلي بن جديد في سُدة الحكم. ورفع اللواء بلوصيف تقريرًا شاملًا بضباط فرنسا مع توصية للقيادة بضرورة تطهير الجيش منهم كمؤسسة وطنية، كما كان بلوصيف يقف بقوة ضد أي تعاون عسكري أو تسليح من فرنسا متخطيًا صلاحياته في كثير من الأحيان، ومتحديًا صلاحيات رئيس الجمهورية ووزير الدفاع الشاذلي بن جديد، ومتصديًا لطابور فرنسا وله مواقف كثيرة مشهودة في هذا الصدد وفي الحفاظ على المؤسسة العسكرية وطهاراتها ورسالتها في حماية التراب الوطني وعدم خضوعها لأي مؤثر سياسي.
استغل طابور فرنسا أحداث الجزائر وتنحية الرئيس الشاذلي عام 1992م، ولفقوا تهمة كيدية للواء بلوصيف (التلاعب بالمخصصات المالية لوزارة الدفاع)، وحُكم عليه بالسجن 15 عامًا قضى منها 10 أعوام في السجن، ثم أستطاع الرئيس الوطني اللواء اليمين زروال انتزاع موافقة حكومة الظل من ضباط فرنسا للإفراج المشروط عن اللواء بلوصيف، والاكتفاء بالإقامة الجبرية له في منزله ما تبقى من محكوميتة احترامًا لتاريخه الوطني والعسكري، وتقديرًا لقيم المؤسسة العسكرية والتي أفنى زهرة حياته في خدمتها، حيث توفاه الله عام 2010م، وأقيمت له مراسم تشييع رسمية تليق به وبتاريخه وبالمؤسسة التي تقلد مسؤولياتها.
كان المحور والرأس لضباط فرنسا في العقدين الأخيرين هو الجنرال العربي بلخير، والذي تولى الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية مرتين في عهدتي الرئيسين الشاذلي بن جديد وعبدالعزيز بوتفليقه، ووزيرًا للداخلية في العًشرية السوداء؛ حيث يتمتع بلخير بشخصية هادئة ورزينة ويُظهر صداقته للجميع، ويتمتع بقدرة كبيرة على احتواء الخصوم والتوفيق بين الأضداد، ولا يستخدم سلطته ولا سطوة منصبه في خلافاته أو مآربه، بل كان يوظف عقله ومصلحته وفن الممكن، كما لم يكن متأثرًا بتكوينه العسكري كبقية زملائه والذين عُرف عنهم الغلظة والشدة والبطش في التعامل مع المواقف والخصوم على وجه التحديد؛ لهذا يقول أحدهم واصفًا شخصية بلخير: "لو أن شخصًا أتى لبلخير وهو يحمل سلاحًا لقتله لسلمه السلاح وأحتضنه من أول كلمتين من بلخير"!
لهذا سعى الداهية بوتفليقه ومنذ عهدته الأولى إلى الرضوخ لشروط عسكر فرنسا بتعيين العربي بلخير رئيسًا لديوان رئاسة الجمهورية رغم كراهيته الشديدة له، وأبقى على منظومة العسكر كما هي رغم كونه وزيرًا للدفاع وفق الدستور الجزائري حتى يتمكن من التخلص من الملفات العويصة ومعالجتها، وعلى رأسها ملفَّا الإرهاب والسياسة الخارجية للجزائر، والسعي الحثيث لإعادتها إلى مكانتها الإقليمية والدولية بعد التراجع الخطير لها، خاصة في العشرية السوداء 1992-2000.