على المدى القريب والبعيد سيعمل المؤرخون العسكريون وعلماء الجيوبولتيكا على البحث في الإستراتيجية الإيرانية التي وضعها سليماني. وإلا فما معنى قول نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي أإن "محور المقاومة خسر القائد سليماني لكن جغرافيا المقاومة وسلاحها وأهدافها لا تزال قائمة", إذ لا تقل قيمة الفريق الشهيد قاسم سليماني عن أي قائد عسكري دُرّس في الأكاديميات العسكرية ابتداءَ من صن تزو وكلازوفيتس ونابليون وكوتوزف الذي أسقط مشروع نابليون لاحتلال موسكو، وانتهاء بقائد المقاومة المغربية الأمير عبد الكريم الخطابي إلى ماوتسي تونغ وهوشي منه وتشرشل ورومل وإيزنهاور وتشي غيفارا وغيرهم. ولهذاعتبرت الولايات المتحدة الشهيد سليماني هو من حرض ودعم وأسس فصائل المقاومة التي أجبرت الجيش الأميركي على الخروج من العراق، وهو من هزم "داعش" في العراق وسوريا وكان الداعم الأكبر للمقاومة في لبنان وفلسطين واليمن.
إن سر قوة إيران وتأثيرها عالمياَ هو احترامها لعلمائها وخبرائها الإستراتيجيين وعلى رأسهم القائد قاسم سليماني. فلم يقع السيد خامنئي وقادة حرس الثورة أنفسهم في ما وقعت فيه دول عظمى في أزمات جعلها تنحدر أو تضمحل.
صحيح أن الولايات المتحدة رسمت في إعلامها شخصية سليماني كما تريد واعتبرته العقل المدبر لكل من وقف في وجه مشاريعها ابتداءً من العراق وانتهاء بفلسطين، إلا أن شخصية سليماني في "الوعي الإيراني" هي شخصية بطل وطني. "وهي صورة محارب نبيل ولكنه قلما يتدخل في السياسة" كما يصفه الكتاب.
يعتبر الكتاب أن حرب إيران والعراق هي التي شكلت قيم وعقائد سليماني، وكانت فرصة لظهور جوانبه النبيلة، ومن دون شك فقد كانت ظروف الحرب في تلك المرحلة مؤئرة في إيجاد وتقوية خصائص القائد الكارزمي فيه.
يضيف الكتاب: ما زال القائد سليماني يأتي على ذكر شهداء الحرب منذ انتهاء تلك الحرب إلى يومنا هذا في جميع كلماته وخطبه العامة.
فقد كانت كلمات الفريق سليماني الحماسية التي كان "يلقيها قبل العمليات الحربية وبعدها، والتي تمتزج بالبكاء والتضرع وطلب المسامحة من الشهداء لأنه لم يستشهد مثلهم تؤثر كثيراً في العناصر الذين يعملون تحت إمرته. فقبل كل هجوم كان يعانق جميع المقاتلين معه فرداً فرداً. وفي حالة من البكاء يقوم بتوديعهم، وسواء كان ذلك متعمداً أم لا فإنه كان يستفيد من العواطف والإحاسيس لأجل رفع روحية عناصره. وفي الوقت نفسه لا بد أن هذه الحقيقة قد تركت تأثيراً كبيراً على شخصيته وهي أن أغلب أولئك الذين كان يعانقهم ويشايعهم قد قتلوا في العمليات المختلفة" .
كان سليماني يعتبر أن "حرس الثورة هو الجنة التي يمكن أن يشتم منه عبقها. وهو معراج الشهداء وهو معراج المجاهدين. للسماء وهو محبوب الإمام (الخميني), لقد نظر الإمام إلى الحرس وقال: "إني أقبل أياديكم لأن يد الله فوقها، ولولا الحرس لما كان البلد".
ويرد سليماني على حملات التهم والإفتراء التي يتعرض لها الحرس بسبب دفاعه عن الثورة بقوله: " كان الحرس في الرتبة الأولى على مستوى تقديم قادته إلى مذبح الشهادة. إن الحرس مجموعة من المنتظرين للشهادة".
ويرى سليماني في كتابه "قاسم سليماني..ذكريات وخواطر" الذي أعده علي أكبري مزد اَبادي وترجمه ونشره مركز المعارف للترجمة والنشر في بيروت، أن هناك خمسة أركان مهمة في الحرب تمثل القالب الأساس لوعاء الجبهة:
الأول هو الجهاد، فهناك اختلاف كبير بين الحهاد والحرب كعمل عسكري. للجهاد خصائص وبنية خاصة به. ويؤكد سليماني أن جميع الأعمال التي كانت تنجر في الجبهة، حتى الأعمال العسكرية مبنية على الجهاد. فالجهاد هو الذي يحطم السدود. إن العمل العسكري يصل إلى طريق مسدود بخلاف الجهاد. ففي العمل العسكري لا يسمح العقل العسكري لنا أن نقوم بعمليات عسكرية مثل "بيت المقدس" و" الفتح المبين" وو... فنحن أمام عدو لا يوجد بيننا وبينه أي نوع من التكافؤ".
ويؤكد سليماني أنه في العرف العسكري فإن الغواص هو قوة خاصة تخضع للتعليم والتدريب بحسب الأنظمة التعليمية في العالم. لكن عندما ننظر لكتيبة غواصينا الذين أبدعوا تلك العمليات الثقيلة والمعقدة على الصعيد العسكري، سنجد أن أساس هذه الشجاعة والعمل الجهادي كان مهماً.
والثاني هو الأخلاق: لقد حصل اجتماع بشري لمدة ثلاثة اَلاف يوم، اجتمعوا وتسلحوا معاً وأرادوا أن يحاربوا ولم يحصل بينهم أدنى شجار أو إهانة.لم يكن ذلك في أي نوع من الرتب العسكرية. لم يكن هناك شخص قائد وشخص عقيد أو عميد. لم يكن أي واحد من هؤلاء يفكر بأي من هذه الرتب العسكرية. لم يكن هناك سوى كلمة واحدة متداولة وهي "الأخ". لم يكن هناك عالٍ ودانٍ. كان الأدب حاكماً في الجبهات".
الركن الثالث هو المعنويات: يشبه سليماني الجبهات أثناء الحرب المفروضة على إيران بالحج عندما يحرم الحجاج ويذهبون إلى جبل عرفات ومنى والمشعر ورمي الجمرات. "فهذه الأعمال معنوية والكل يكون مشغولاً بذكر الله. لقد كان لجبهاتنا مثل هذه الأجواء. كان هناك حج حقيقي، مثل حج ابراهيم واسماعيل لم يكن هناك أي نوع من مدح الذات والغرور والعجب".
ويروي سليماني حكاية تؤكد أهمية المعنويات. ففي عمليات "والفجر 8"، كان الأمل في الانتصار ضعيفاً جداً وواقع الميدان صعباً. يسأل علائي قائد القوات البحرية السابق في الحرس، الشهيد الحاج أحمد أميني عند بدء العمليات: ماذا تفعلون إذا راَكم العدو؟ فشرح له الجواب، ولكن يبدو أن علائي لم يقتنع، فقال له أميني نقرأ اَية السد "وجعلنا من بين أيديهم سداً" وهكذا حصل. لقد قيل الكثير عن الجانب المعنوي للحرب.
الركن الرابع هو العمل لأجل الله و العمل على طريق الله وغض النظر عما سوى الله.
العامل الخامس هو الولاية: كان أكثر من تسعين في المئة من المقاتلين ممن لم يروا الإمام الخميني عن قرب ولكنهم كانوا عاشقين له. لقد وضعوا أرواحهم على طبق الإخلاص من أجل بسمة الإمام ورضاه وإزالة قلقه.
ويؤكد سليماني أن هذه العوامل الخمسة أدت إلى بروز خصائص ثلاث من قلب حربنا وجبهتنا.
الخاصية الأولى: خلق المعنويات. فأساس التحولات المعنوية الكبرى في مجتمعنا كانت في حرب الدفاع المقدس.
الخاصيىة الثانية: لقد كانت حربنا في مجال الحث على التفكر أشبه بالحوزة العلمية. فكما يتباحث الطلبة في الحوزة، كانت ساحة الحرب هكذا. لقد كان المجاهدون يسعون إلى الانقطاع عن الدنيا ويقتدون بالحوزات. لقد كانت الجبهة مثل فرن يخرج منه الأشخاص ناضجين ومستوين.
الخاصية الثالثة: إن الشباب الذين خاضوا كثيراً الحرب أصبحوا اليوم أكثر نجاحاً. ويطالب سليماني بواجب التعرف إلى هذه العوامل التي حققت مثل هذه التربية والشخصيات العظيمة في الجبهة من أجل أن نتمكن من ترويجها في مجتمع اليوم.
بكل هذه الأرواح من رفاقه الشهداء والمجاهدين يعلن سليماني في كتابه: نحن على استعداد تام لمواجهة أي تحرك للعدو.. من الممكن أن يقوموا بعمل ما ولكن ماذا ستكون النتيجة، ليس باستطاعتهم أن يخمنوا نسبة نجاحهم.
ويعطي سليماني مثلاً على هذه الخاصية وهي العدوان الإسرائيل على لبنان في تموز / يوليو من عام 2006. يقول: لا توجد حرب جرّبها العدو أصعب وأشد من حرب 33 يوماً في لبنان، ولا يوجد عدواً أكثر كلاسكية وتدريباً من "إسرائيل". فهولاء رأوا بدهشة أن أقوى جيوش العدو في العالم قد هزم على يد مجموعة صغيرة باسم حزب الله. وفي إيران هناك اَلاف المنظمات كحزب الله وملايين الأشخاص من عناصر حزب الله. وفي الحقيقة إن هذا الشعب بالتوكل على الله سبحانه وتعالى هو شعب لا يهزم وبالإيمان بالأئمة المعصومين والثقة بالله يستمر على طريقه".
لهذا كله روّض الشهيد سليماني نفسه للإستشهاد وسأل الله عز وجل الشهادة وبأنه لن يرضى بغيرها وطالما دعا وتوسل عند مراقد الائمة في العراق وإيران بنفسه أو عبر أخوة وأخوات يدعون له في ظهر الغيب، بأن يفوز بالشهادة، كما فاز رفاقه الشهداء.
في كل فصول الكتاب يكتشف القارئ حرص سليماني على أن يتذكر الشهداء في كل كبيرة وصغيرة وبالأخص في ذكراهم. فعلى الر غم من ترقيه في المناصب وتحقيقه العديد من الانتصارات والإنجازات، وبالأخص منها قيادته لـ"قوة القدس" مما يجعله أحد القادة الأساسيين في الشرق الأوسط، إلا أنه حافظ على حلمه القديم، ولم يسمح لكل أفخاخ السلطة والمناصب أن تنسيه طموحه الشخصي بأن يسعى للإستشهاد كرفيقيه الحاج همت وبقائي وغيرهم.